مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

وجوب التّقليد مُستفاد من السّيرة العقلائيّة القطعيّة ومن سيرة المتشرِّعة

تفاصيل المنشور

الاشكال

ذكرتم في بعض منشوراتكم أدلة وجوب التقليد من القرآن الكريم، وذكرتم قبلها أدلة وجوبه بالروايات الشريفة، فهل هناك غير القرآن والروايات ما يدل على وجوبه أو لنقل يعضد أدلة الكتاب والروايات كالسيرة العقلائية مثلا، وسيرة المتشرعة، وكيف يتم الاستدلال بذلك.

المستشكل

أحمد السيد مناف

تفاصيل المنشور

الاشكال

ذكرتم في بعض منشوراتكم أدلة وجوب التقليد من القرآن الكريم، وذكرتم قبلها أدلة وجوبه بالروايات الشريفة، فهل هناك غير القرآن والروايات ما يدل على وجوبه أو لنقل يعضد أدلة الكتاب والروايات كالسيرة العقلائية مثلا، وسيرة المتشرعة، وكيف يتم الاستدلال بذلك.

بسمه تعالى

والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله المطهرين..

في المواضيع السابقة كانت الإجابات بحسب السؤال أو الإشكال، فالسائل يريد دليلا من القرآن الكريم أو من الروايات الشريفة، ونحن إذ نكتفي في الجواب بذكر الدليل المطلوب، وإلا فموضوع التقليد موضوعٌ ثابت وراسخٌ، تدلُّ عليه أدلّة كثيرة توجبه وتجعل عمل المكلَّف من دون تقليد واتّباع لمرجع من مراجع الدّين عملاً باطلاً وغير مقبول، ومن تلك الأدلة السيرة العقلائية القطعية.

والسيرة العقلائية هي احدى أدلّة الاستنباط للحكم الشرعيّ، وعليها مدار التّعويل في أهم ركن من أركان الاجتهاد، وهو: حجيّة خبر الواحد، فالفقه يعتمد كثيراً على خبر الواحد، ولولا خبر الواحد لاندرست الشريعة وتوقّفت عن التّواصل مع النّاس عبر الأجيال، فليس كلُّ الأحكام الفقهيّة متواترةً أو مقطوعةَ الصُّدور عن أهل البيت (عليهم السلام)، فالمتواترُ قليلٌ جداً في الشريعة ولم يبقَ طريقٌ أمام الناس للأخذ بالأحكام إلّا من خلال خبر الواحد، وقد ثبتت حجيّة خبر الواحد من خلال السّيرة العقلائيّة القطعيّة، أي: من خلال السّيرة الممضاة من زمان المعصومين (عليهم السّلام)؛ حيث كان النّاس يعتمدون في معاملاتهم واتّفاقاتهم على خبر الواحد، ويأخذون به، وكان الأئمّة (عليهم السلام) يلاحظون هذه السّيرة بين النّاس في الأخذ بخبر الواحد، ولم يعترضوا عليها، فعُدَّ هذا السّكوت من المعصومين (عليهم السّلام) إمضاءً لحجيّة خبر الواحد، ويجوز الأخذ به شرعاً، والاعتماد عليه في استنباط الأحكام الشرعيّة. 

نقول: نفس هذا المعنى من السّيرة العقلائيّة تجده في الرُّجوع إلى أهل الخبرة، فقد كان النّاس يرجعون إلى أهل الخبرة أيّام المعصومين (عليهم السّلام)، بل قبل زمانهم، وكان هذا الرُّجوع على مرأى ومَسمَع من المعصومين (عليهم السّلام)، ولم يثبت صدور ردعٍ من المعصومين (عليهم السّلام) للنّاس في عدم الرُّجوع إلى أهل الخبرة. 

فعُدَّ هذا السّكوت وعدم الرّدع من الأئمة (عليهم السَّلام) إمضاءً للأخذ بهذه السّيرة العقلائيّة في الرّجوع إلى أهل الخبرة، والفقهاء والمجتهدون هم من أهل الخبرة في اختصاصهم، فيجوز الرّجوع إليهم في هذا الجانب؛ بموجِب هذه السّيرة العقلائيّة الممضاة من الأئمة المعصومين (عليهم السَّلام). 

ومن الأدلّة التي يمكن الاستناد إليها في المقام هي: سيرة المتشرّعة، وهذه السّيرة لا تحتاج إلى إمضاء المعصوم ـ كالسّيرة العقلائيّة المتقدِّمة ـ، بل هي بنفسها تستبطن رضا المعصوم (عليه السّلام) وموافقته؛ باعتبارها سيرة خاصّة بالمتشرِّعة بما هم متشرّعة، وليس بما هم عقلاء. 

فقد ورد في بعضِ الرِّوايات أنَّ الأئمة (عليهم السّلام) أرجعوا شيعتهم إلى العلماء من أصحابهم في أخذ معالم الدّين وفي القضاء، وعلى هذا كانت سيرة أتباع أهل البيت (عليهم السّلام) في الرّجوع إلى أصحاب الأئمّة الثقات وأخذ معالم الدّين عنهم؛ بأمرٍ من الأئمّة (عليهم السّلام) أنفسهم، وقد شهدنا عصرَ الغيبة الصُّغرى ووجدنا الشّيخَ الكلينيّ (قدَّس سرّه) يؤلِّف كتاباً يتضمّن اختيارات فقهيّة واستنباط للأحكام في الجمع بين الرِّوايات المتعارضة وترجيح بعضها على بعض، وهو كتابه المعروف بـ(الكافي)، وكذا وجدنا عليَّ بن بابوبه ـ والد الشّيخ الصّدوق ـ له رسالة (الشّرائع) التي كانت مشهورةً بين الأصحاب، وقد نقل الشّيخ الصّدوق ولدُه فقراتٍ منها في كتبه، وهكذا يمتد الأمر إلى زمن الغيبة الكبرى فيؤلَّف الشّيخ الصّدوق ـ المولود بدعاء الحجّة (عجّل الله فرجَه) كما هو المعروف ـ كتاب (الفقيه) و(المقنع) و(الهداية)، ويؤلَّف الشّيخ المفيد كتاب (المقنعة)، ويؤلَّف الشّيخ الطوسيّ كتابَ (النّهاية)، وكلُّها كتبٌ فقهيّة ألّفها أصحابها للنّاس؛ لغرض العمل بها، كما تشير إلى ذلك مقدِّمات هذه الكتب. 

بل نجد مِن علماء الطّائفة مَن يصرِّح بالإجماع على جواز التّقليد، كالسيّد المرتضى (قُدِّس سرُّه) الذي قال: ((لا خلافَ بين الأمّة قديماً وحديثاً في وجوبِ رجوع العاميّ إلى المفتي.. ومَن خالفَ في ذلك كان خارقاً للإجماع)) [الذّريعة، ج2، ص786]. 

وقال الشّيخ الطوسيُّ: ((والذي نذهبُ إليه: أنّه يجوز للعاميّ ـ الّذي لا يقدر على البحث والتّفتيش ـ تقليد العالِم. يدلُّ على ذلك: أنّي وجدتُ عامّةَ الطّائفة من عهد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) إلى زماننا هذا يرجعونَ إلى علمائها، ويستفتونهم في الأحكام والعبادات، ويفتونهم العلماءُ فيها)) [العدّة في أصول الفقه، ج2، ص 729]. 

وقال المحقَّق الحليّ: ((اتّفاق علماء الأمصار على الإذنِ للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر، وقد ثبت أنّ إجماع أهل كلِّ عصر حجّة)) [معارج الأصول، ص129]. 

والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.