تفاصيل المنشور
- المستشكل - باقر حسن
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 100 مشاهدة
تفاصيل المنشور
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. اقرأ كلاما للبعض يدعو فيه إلى الاعتماد على القرآن الكريم وحده في استنباط الأحكام ، وبعضهم يضيف إليه أخذ ما يعجبه من السنّة الشريفة وترك البعض الآخر ، ويعتبر الأخذ عن علماء الدين هو أخذ عن أنداد لله .. هل يصحّ ذلك ؟!
المستشكل
باقر حسن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. اقرأ كلاما للبعض يدعو فيه إلى الاعتماد على القرآن الكريم وحده في استنباط الأحكام ، وبعضهم يضيف إليه أخذ ما يعجبه من السنّة الشريفة وترك البعض الآخر ، ويعتبر الأخذ عن علماء الدين هو أخذ عن أنداد لله .. هل يصحّ ذلك ؟!
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
هذا الكلام غير مقبول شرعا وعرفا وعقلائيا – كما سنبيّن إن شاء الله – وهو يتضمن ثلاثة مطالب :
الأوّل : هل يصحّ الاعتماد على القرآن الكريم وحده ؟
الثاني : هل يصحّ الانتقاء من السنّة الشريفة بما يعجب الإنسان وترك ما لا يعجبه ؟
الثالث : هل الأخذ عن علماء الدين يكون بمثابة الأخذ عن أنداد لله ؟
أمّا المطلب الأوّل فالرد يأتي عليه من القرآن الكريم نفسه الذي أوجب الأخذ عن السنّة الشريفة كما أوجب الأخذ عن القرآن الكريم .
يقول تعالى في كتابه الكريم : { مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }سورة الحشر :7.
فهنا نجد الأمر الإلهي واضحاً جدّاً بلزوم الأخذ من السنة الشريفة بما تأمر به وتنهى عنه ، وأنّ المخالف لذلك يتعرّض إلى عقاب شديد ، والآية مطلقة لم تُقيَّد بأخذ القرآن فقط عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ، فتكون الدلالة تامّة أصولياً من هذه الناحية .
وهكذا وردت آيات أخرى كثيرة في هذا الجانب لا يمكن غضّ الطرف عنها أو طرحها ، فضلا عمّا ورد في السنّة الشريفة نفسها من النهي الصريح عن الإعتماد على القرآن وحده وترك السنّة الشريفة ، لكننا لا نوردها هنا حتى لا يقال إنها تلزم الدور في الاحتجاج ( الدور في الاصطلاح توقّف إثبات الشيء على نفسه ) ، وإن كانت هي بنفسها تفيد التظافر والتواتر بما ينفي عنها دعوى الدور هذه ، ويكفينا ما ورد في القرآن الكريم نفسه .
أمّا المطلب الثاني ، فنقول في الإجابة عليه باختصار : الأخذ بالسنّة الشريفة ، كما هو الشأن في الأخذ بأيّ خبر يأتينا في هذه الدنيا – الأعمّ من الخبر الديني – خاضع لمنظومة عقلائية عرفية مفادها التأكد من صحّة الخبر أوّلاً ومعرفة المراد الجدّي للمتكلّم ثانيا ، فقد يتكلّم المتكلّم بكلام عام أو مطلق في مناسبة ما ثمَّ يذكر التفاصيل في مناسبة أخرى ، فهنا يجمع العرف بين كلاميه حتّى يخرج بالمراد الجدّي لبياناته ، فهذه الضوابط ونحوها هي ضوابط عرفية عقلائية تلزم كلّ إنسان إذا أراد أن يأخذ بأيّ خبر في هذه الدنيا ويعمل به .
هذا من حيث كبرى الأخذ بالأخبار ومنه الأخذ بالسنّة الشريفة ، أمّا الصغرى ( وهي الأخذ بما يعجب المسلم المكلّف من السنّة الشريفة وترك ما لا يعجبه ) ، فهذا مردود على صاحبه بنصّ الآية الكريمة المتقدّمة التي أوجبت الأخذ مطلقاً بالسنّة الشريفة ، ولم ترخّص للمكلّف أخذ ما يعجبه منها وترك ما لا يعجبه ، وقد نهى المولى سبحانه عن التبعيض في الأخذ ، بمعنى أن ياخذ الإنسان بعضا من القرآن الكريم أو السنّة الشريفة ويترك البعض الآخر ، قال تعالى: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون }سورة الحجر 91- 93. ومعنى كلمة ( عضين ) في الآية المباركة : أنّه يجعل القرآن الكريم أقساما مجزأة ، يؤمن ببعض ويكفر بالبعض الآخر ، فأمثال هؤلاء سيتعرضون للسؤال الشديد من قبل الله عزّ وجل لتلاعبهم بأحكامه .
وأمّا المطلب الثالث ( الأخذ عن علماء الدين هو أخذ عن أنداد لله ) ، نقول : للأسف هذا فهم سطحي للمراد من الندّية لله ، فالندّ في اللغة هو المِثل والنظير ، ولكن ليس مطلق المِثل والنظير بل المماثل المخالف والمعادي ، قال في الفروق : (( الفرق بين الندّ والمِثل : أنَّ الندّ هو المِثل المناد من قولك ناد فلان فلانا إذا عاداه وباعده ولهذا سمي الضدّ ندّاً )) . ( الفروق لأبي الهلال العسكري : 535)
وهذا المعنى من الندّية لا ينطبق على علماء الدين الذين يقومون باستنباط الأحكام الشرعية وبيانها للناس ؛لأنّ ما يقوم به علماء الدين في استنباط الأحكام هو ما تقدّمت الإشارة إليه في المطلب الثاني من الجمع بين البيانات الصادرة في القرآن والسنّة وجمعها جمعا عرفيا حتّى يخرجوا بالمراد الجدّي للشارع منها، ففي القرآن الكريم يوجد عامّ وخاص ، ومطلق ومقيّد ، ونصّ وظاهر ، ومحكم ومتشابه ، وناسخ ومنسوخ ، ومجمل ومبيّن ، وغير ذلك من الطرق البيانية الكثيرة التي جاءت بها الآيات الكريمة بحسب ما تقتضيه أساليب البيان والتعبير في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم وجاءت بها السنّة الشريفة ، ودور العلماء هو دراسة هذه الأساليب البيانية كلّها وتمحيصها والجمع بينها جمعا عرفيا ثم الخروج بالمحصلة النهائية منها ، وفق أساليب الجمع العرفي العقلائي في فهم الكلام العربي ، والموجودة في كتب البلاغة .
ومن لم يجيد أساليب الجمع العرفية هذه بين النصوص الشرعية قد يقع في محاذير شرعية خطيرة جدّا ، كما لو تمسك الفرد العادي – غير المتخصّص – بعموم آية قرآنية وأصرّ على الأخذ بحكمها ، كما لو تمسّك مثلاً على الأخذ بعموم قوله تعالى :{ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} الوارد في سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم، الآية 4 ، وصرّح بلحاظه بقتل جميع الكفار في الأرض بمجرد ملاقاتهم ، والحال أنّ الآية مخصّصة بخروج من يعطي الجزية منهم ، قال تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ }كما في سورة التوبة : 29، ومخصّصة بقتال المحاربين دون المسالمين من الكافرين ، كما في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }سورة البقرة : 190 ، وهكذا توجد تخصيصات كثيرة لأغلب العمومات الواردة في القرآن الكريم ، حتّى قيل : ما من عام إلّا وقد خصّ .
فهنا لا يحقّ للإنسان غير المتخصّص التمسك بالعمومات من دون مراجعة مخصصاتها واستنباط الحكم الشرعي منها ، وما يقوم به العلماء هو هذه المهمة من الجمع بين النصوص الشرعية ثم الخروج بالمحصلة النهائية منها ، لذا وجب الأخذ عنهم بمقتضى السيرة العقلائية القطعية التي توجب رجوع الجاهل إلى العالِم ، كلّ في اختصاصه ، فكما لا يحقّ للإنسان غير المتخصص في الطب أن يعطي الوصفات الطبية للناس ، كذلك لا يحقّ لغير المتخصّص في العلوم الدينية وغير البالغ لمرتبة الاجتهاد أن يفتي الناس في الأحكام .
وبهذا اللحاظ لا ينطبق عنوان الندّية على ما يقوم به العلماء في استنباط الأحكام ، اللهم إلّا إذا كان ما يفتي به هذا العالِم فيه مخالفة صريحة للقرآن والسنّة الشريفة ، فهذا مردود بالاتفاق ولا كلام من هذه الناحية .
ودمتم سالمين