مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

هل يتحقّق الإيمانُ مع إنكارِ بعضِ مضامينِ القرآن الكريم؟‏

تفاصيل المنشور

السؤال

شخص يصوم ويصلي ويقوم بكافة الأركان لكن لا يؤمن ببعض العقائد المذكورة في ‏القران مثل قصة سبب قتل الغلام في قصة الخضر قال الله تعالى في كتابه (سورة الكهف): ‏‏((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً ‏نُكْرا))……..((وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ ‏يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما)) الكهف.‏

السائل

ميثم

تفاصيل المنشور

السؤال

شخص يصوم ويصلي ويقوم بكافة الأركان لكن لا يؤمن ببعض العقائد المذكورة في ‏القران مثل قصة سبب قتل الغلام في قصة الخضر قال الله تعالى في كتابه (سورة الكهف): ‏‏((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً ‏نُكْرا))……..((وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ ‏يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما)) الكهف.‏

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح ‏الظلام، ‏وهُداة الأنام.‏
الإيمانُ بكتابِ الله هو الإذعانُ الجازمُ بجميعِ ما تضمَّنه من عقائدَ وقصصٍ وأخبارٍ وأحكام، ‏إذ ‏كلُّه حقٌّ من عندِ اللهِ سبحانه، لا يتجزّأ فيه التسليم، ولا يُتصوَّر فيه الانتقاء، قال جلّ شأنه: ‏‏{وَمَا ‏كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ ‏أَمْرِهِمْ} ‏‏[الأحزاب:36]. فمن قبِل بعضاً وردَّ بعضاً فقد خالف أصلَ الإيمانِ الذي يقومُ على ‏الخضوعِ ‏الكامل للوحي والرضا بحكمِ الله في الغيبِ والشهادة.‏
وقد عاتبَ اللهُ تعالى بني إسرائيل على هذا المسلك فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ‏وَتَكْفُرُونَ ‏بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. ومعناها أنّ الازدواجيةَ في الالتزامِ بأحكامِ اللهِ تعالى من عواملِ ‏السقوط، ‏إذ تدفعُ الأفرادَ إلى التحركِ حولَ محورِ مصالحِهم الآنيّةِ الضيّقة، فيلتزمون بالقوانينِ ‏التي تحفظُ ‏منافعَهم الشخصية، ويتركون القوانينَ النافعةَ للمجتمع. [يُنظر: تفسيرُ الأمثل، ج1، ‏ص288]. ‏فدلّت على أنَّ الإيمانَ الانتقائيَّ لا يُعدّ إيماناً شرعاً، بل هو لونٌ من الكفرِ العمليّ ‏المناقضِ ‏لحقيقةِ التسليم.‏
وليتأمّلِ المؤمنُ في شؤونِ نفسه، فإنه يمارس في حياتِه أموراً كثيرةً لا يحيطُ بعِلّتها ولا ‏يدركُ ‏وجهَ الحكمةِ فيها، ومع ذلك يُسلِّم بها ثقةً بأهلِ الخبرة، كمن يتناولُ الدواءَ الموصوفَ له ‏دون أن ‏يعلمَ تركيبَ عناصرِه ولا كيفيةَ تفاعلِه في جسده، أو كمن يركبُ الطائرةَ لا يعرفُ كيف ‏تُحلِّق، ‏لكنه يطمئنّ إلى علمِ صانعِها والطيارِ الذي يقودُها.. فإذا كان الإنسانُ العاجزُ عن إدراكِ ‏دقائقِ ‏الأشياءِ في عالمِ المادّة يُسلِّم فيها لأهلِ المعرفةِ المحدودة، أفلا يكونُ أولى به أن يُسلِّم ‏للعليمِ ‏الحكيمِ الذي أحاطَ بكلّ شيءٍ علماً، وأخبرَنا في كتابِه بما يفوقُ مداركَنا؟!‏
وما وردَ في قصّةِ العبدِ الصالحِ في سورةِ الكهف أنّ اللهَ آتاه رحمةً خاصّةً وعلّمه علماً ‏لدنيّاً، ‏فقال سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} ‏‏[الكهف:65]. ‏وعلى مقتضى هذا العلمِ جرى فعلُ قتلِ الغلام، لا عن هوىً ولا جهلٍ، بل عن علمٍ ‏إلهيٍّ بعواقبِ ‏الأمور، إذ قال عزّ وجلّ: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا ‏طُغْيَانًا وَكُفْرًا * ‏فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80-81]. فالقصةُ ‏مظهرٌ من ‏مظاهرِ العلمِ الإلهيّ الذي لا يحيطُ به عقلُ البشرِ المحدود، وهي بيانٌ أنّ سننَ التدبيرِ ‏الإلهيّ، ‏وما يجري على أيدي أوليائِه بإذنه، جارٍ على مقتضى الحكمةِ وإن خفيَ وجهُه عن ‏الأفهام.‏
ومن صامَ وصلّى وأتى بجميعِ الأركان، ثم ردَّ بعضَ ما أخبرَ اللهُ عزّ وجل به لعدمِ قبوله ‏في ‏ذهنِه أو لقصورِ تصوّره، فقد عرض أصلَ إيمانِه للنقض، لأنّ العملَ لا يُعتدّ به إلا مع ‏التسليم، ‏وإلا كان صورةً بلا روح، والمؤمنُ الحقّ إذا ضاق فهمُه عن بعضِ الآياتِ اتّهم فهمَه ‏ولم يتّهم ‏كتابَ ربّه، وسأل اللهَ الهدايةَ إلى وجهِ الحقّ، كما قال سبحانه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي ‏صُدُورِ ‏الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49].‏
والعقلُ الذي تمتدحه الشريعةُ هو الذي يقودُ صاحبَه إلى الخضوعِ لحكمِ اللهِ سبحانه، لا ‏الذي ‏يُقابلُ النصوصَ برأيٍ قاصر، وقد ورد في الحديثِ عن الإمامِ الصادق (عليه السلام): ‏‏((العقلُ ‏ما عُبدَ به الرحمنُ واكتُسِبَ به الجِنان)) [الكافي، ج1، ص11]. فملاكُ النجاةِ أن يُسلِّمَ ‏العبدُ ‏لكتابِ الله تبارك وتعالى، ويفوِّضَ علمَ ما خفيَ عليه إلى علّامِ الغيوب، ويطلبَ الفهمَ ‏على ‏أبوابِ الوحي، فإنَّ من سلّم هداهُ اللهُ سبحانه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ ‏قَلْبَهُ} ‏‏[التغابن:11].‏
والخلاصة، انَّ قصّةَ الخضرِ آيةٌ محكمةٌ من كتابِ الله، شاهدةٌ بالحكمةِ الإلهيّة، يَهتدي ‏لوجهِها ‏من سلّم لحُكمه تبارك وتعالى، وأمّا من ردَّها استبعادًا برأيٍ قاصرٍ فقد هدمَ ركنَ التسليم؛ ‏فلا ‏تُغني حركاتُ الجوارح مع فسادِ الاعتقاد، إذ الإيمانُ إنّما يقومُ على الانقيادِ التامّ لكتابِ اللهِ ‏عزَّ ‏وجلّ.‏
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين ‏الطاهرين ‏المعصومين المنتجَبين.‏