تفاصيل المنشور
- السائل - أياد الصاغاني
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 8 مشاهدة
تفاصيل المنشور
الإسلام مجرَّد نظامٍ دينيٍّ يُعنى بالجوانب الروحية فحسب، ويبتعد عن شؤون الحياة الدنيوية، فلماذا يحاول المسلمون إقحامَه في كل قضية؟!
السائل
أياد الصاغاني
الإسلام مجرَّد نظامٍ دينيٍّ يُعنى بالجوانب الروحية فحسب، ويبتعد عن شؤون الحياة الدنيوية، فلماذا يحاول المسلمون إقحامَه في كل قضية؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
هذه نظرةٌ سطحيةٌ للإسلام، فصحيحٌ أنَّ الدين الإسلامي يُعنى بالجانب الروحي للإنسان، ويَربطه بخالقه، لكنَّه يتجاوز ذلك بكثيرٍ ليشمل كلَّ جوانب حياته، فالقرآنُ الكريم دستورٌ شامل للحياة، يُرشد المسلمين في كلّ شؤونهم، من العبادات والمعاملات إلى السياسة والاجتماع، يقول الله سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وفي هذا السياق يقول الدكتور «غوستاف لوبون»: معترفًا بهذه الحقيقة: ((… وإلى زمانِ وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرزَ العربيَّ فجأةً في لباس الفاتحين، وصانعي الفِكر والثقافة، لم يكن يُعدُّ أن جزءًا من أرض الحجاز من التاريخ الحضاري، ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أيّ شيءٍ أو علامة للعلم والمعرفة، أو الدين)) [تفسير الأمثل، ج2، ص625، عن حضارة العرب، لغوستاف لوبون].
وليست الشريعةُ الإسلامية مجرَّد مجموعةِ قوانين، بل هي نظامُ حياةٍ متكامل، يهدف إلى تحقيق السعادة والفلاح للإنسان في الدنيا والآخرة، فهي تُعنى بالعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، والإسلامُ يهدف كذلك إلى بناء مجتمعٍ متماسكٍ، يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
ويشهد غيرُ المسلم بأنّ الإسلام دين الحضارة والمعرفة، وأنَّ دعوته للعلم والابتكار تتجاوز حدود الزمان والمكان، وهو دينٌ يتوافق مع كل عصرٍ وزمان، فقد قال لويس سيديو (Louis Sédillot): ((استطاع العلماءُ المسلمون بتركيز أفكارِهم على الحوادث الفردية، أنْ يطوِّروا المنهج العلمي إلى أبعد مما ذهب إليه أسلافُهم في الإسكندرية أو اليونان، وإليهم يرجع الفضل في استخدام أو إعادة النهج العلمي في أوربا في العصور الوسطى)) [روائع وطرائف، الشيخ إبراهيم النعمة، ص38، ط. دار الخلود، بغداد 1990م].
ويقول الأميرُ البريطاني “تشارلز”: ((إن الإسلام يمكن أنْ يعلِّمنا طريقةَ للتفاهم والعيش في العالم، الأمر الذي فقدتْه المسيحية، فالإسلامُ يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة)) [الإسلام والغرب، الأمير تشارلز، محاضرة في مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية عام 1993م].
ويفنِّد المؤرِّخ الأوروبي “روبرت بريفال” مزاعمَ الغربيّين عن تأثُّر الإسلام بالتشريعات اليونانية الرومانية، فيقولُ: ((إن النور الذي أَشعلتْ منه الحضارة في عالمنا الغربيِّ لم تُشرِق جذوتُه من الثقافة اليونانية الرومانية التي استخفت بين خرائب أوروبا، ولا من البحر الميت على البوسفور (يعني بيزنطة)، وإنما بزغ من المسلمين)) [فضل المسلمين على الإنسانية” تحت عنوان: “رسالة النور والخلاص”].
فالإسلام ليس دينًا يقتصر على المساجد والعبادات، بل هو دينُ الحياة، وهو شاملٌ لكل جوانبها، فهو دينُ العقل والقلب، وهو دينُ الدنيا والآخرة.
وهنا قد تسأل: إذا كان الإسلامُ قد أضفى النورَ على الحضارة الغربية، فما تأثيرُ الفلسفات والثقافات الأخرى، مثل الفلسفة اليونانية والرومانية، في تشكيل الفكر الإسلامي؟
الجواب: أن الفلسفات والثقافات الأخرى ـ مثل الفلسفة اليونانية والرومانية ـ كانت مجرَّد محطّاتٍ على طريق الحضارة الإسلامية التي لم تقتصر على استيعاب ما يأتي من الخارج، بل قامتْ بتطويره وإعادة تشكيله، فالإسلامُ لم يكن مجرَّد مستقبِلٍ للمعرفة، بل كان مُصنِّعًا لها ومبتكرًا لها، وكان هو القوةَ الدافعة نحو الإبداع والابتكار.
فعندما استوعب المسلمون الفكرَ اليوناني بطريقةٍ تكامليّة، قاموا بدمج جوانبه القيِّمة مع تعاليم الإسلام، مما أدَّى إلى صياغة رؤيةٍ فلسفية جديدة، والفلاسفة كـ “ابن سينا” ساهموا بنحوٍ كبير في هذا التكامل، حيث وسَّعوا المفاهيم اليونانية، وربطوها بالمعارف الإسلامية، وهذا النهج التكاملي ساهَم في إحداث تقدُّمٍ علمي ملحوظ في العالم الإسلامي، متجاوزًا إنجازات الحضارات السابقة.
وبخلاف ذلك، فقد تأثَّرتِ الفلسفة اليونانية بالرومانية بعوامل متعدِّدة وأحيانًا كانت أسيرةً للقيود الثقافية والاجتماعية.
أما الفكر الإسلامي، فقد تحرَّر من هذه القيود، وعانَقَ الطموح نحو المعرفة والتفكير النقدي، حتى أصبحت إسهاماتُ الحضارة الإسلامية في العلوم والطب والفلسفة الأساس الذي استندتْ إليه النهضةُ الأوروبية، بل كانتْ بمثابة شُعلةٍ أضاءتْ ظلام العصور الوسطى.
لذا، عندما نتحدَّث عن تأثير الحضارة الإسلامية، فإننا نتحدَّث عن قوةٍ دافعة غيّرتْ مجرى التاريخ، فالإسلامُ لم يقتصرْ على استيعاب الفلسفات الأخرى، بل كان له أثرٌ قويّ في تشكيل هويةٍ فكرية جديدة، أضافتْ إليها أبعادًا روحية وأخلاقية.
فالقول بأنَّ الفلسفات الأخرى هي التي شكَّلت الفكر الإسلامي هو تحريفٌ للتاريخ، فالإسلام كان المحرِّك الرئيس لهذا التطور الفكري، والحضارة الغربية أيضًا استفادت بنحوٍ كبير من هذا الإرث، مما يؤكِّد قيمة الدور الحضاري للإسلام.
وباختصارٍ شديد، فإنّ الإسلام هو دينٌ شامل يُعنى بكل جوانب حياة الإنسان، من علاقته بربه إلى علاقاته بالآخرين، وإنَّ محاولة فصل الدين عن الحياة هي محاولةٌ فاشلة، فالإسلام يرى أن الدين هو أساسُ كل شيء.
وفي الختام: إذا كان الإسلام دينًا يُعنى فقط بالجانب الروحي، فلماذا نجد في تاريخه حضارة مزدهرة ساهمت في تقدم العلوم والمعارف؟!
ولماذا نجد في القرآن الكريم آياتٍ تتحدَّث عن شؤون الحياة الدنيا والآخرة؟!
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.
مركز الدليل العقائدي.