مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

مشيئةُ الله لا تتعارض مع تنصيب الإمام

تفاصيل المنشور

السؤال

يطرح بعضُ المخالفين هذا الإشكال: إن كان لأئمتكم الاثني عـشـر ولايـة تـكـويـنـيـة تـخـضـع لـسـيـطـرتـهـا جـمـيـع ذرات الـكـون، فلماذا تعارضت مشيئة الله مع التنصيب المدعى والولاية التكوينية، فعاشوا مضطهدين من قبل الحكام، وقتلوا مظلومين مقهورين؟! نرجو منكم الرد الوافي.

السائل

أبو رائد عيسى الميالي

تفاصيل المنشور

السؤال

يطرح بعضُ المخالفين هذا الإشكال: إن كان لأئمتكم الاثني عـشـر ولايـة تـكـويـنـيـة تـخـضـع لـسـيـطـرتـهـا جـمـيـع ذرات الـكـون، فلماذا تعارضت مشيئة الله مع التنصيب المدعى والولاية التكوينية، فعاشوا مضطهدين من قبل الحكام، وقتلوا مظلومين مقهورين؟! نرجو منكم الرد الوافي.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..
المستشكل هنا فسر المشيئة الإلهية بالجبر، الأمر الذي أوقعه في هذه الشبهة؛ لأن مشيئة الله سبحانه في أفعال عباده لا تكون بنحو الجبر مطلقًا؛ لكون ذلك يقتضي منافاة الاختيار في التكليف، فينتفي تبعًا له قانون الثواب والعقاب الذي شرّعه الله سبحانه نتيجة التكليف المذكور، حيث يقبُح من المولى سبحانه أن يشرّع الأحكام، ويسنّ السنن، ثمّ يأتي للعباد بما ينافيها.
فالمولى عزّ وجلّ كلّف عباده تخييرًا، فقال عزّ من قائل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، وقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3].
فإذا منح اللهُ سبحانه نبيًّا أو إمامًا منصَّبًا من قِبِله الولايةَ التكوينية والقدرة على التحكّم في الظاهرة الكونية، كما في منح القدرةَ لنبيّه سليمان (عليه السلام) على التحكّم بالريح، كما في قوله عزّ وجلّ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}، أو التحكّم بالمعادن كالنحاس كما في قوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12] وغير ذلك من القدرات التي منحها الله سبحانه لغير مَن ذكرنا من أنبيائه وأوليائه، فهل يصحّ من المولى سبحانه – بعد هذا – أن يُجبِر الناس على الإيمان بنبوّته، ويسلب الاختيار منهم؟!
إن قال المستشكل: لا، بطل إشكاله من أساسه.
وإن قال: نعم، فقد كفر بالقرآن الكريم الذي يقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وكذلك كفر بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:257]، ونحو ذلك العشرات من الآيات الدالة على أنّ الإنسان مختارٌ في إيمانه وكفره، ولا يوجد جبرٌ من الله في أفعال الإنسان.

وعن قول المستشكل: (إن كان لأئمتكم ولايـة تـكـويـنـيـة… فلماذا عاشوا مضطهدين من قبل الحكام، وقُتلوا مظلومين مقهورين).
يُجاب: الولاية التكوينية أمرٌ قد صدح به القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة منه، ذكرنا بعضها في ما يتعلّق بنبي الله سليمان (عليه السلام)، ومنح هذه القدرات أيضًا لغيره من الأنبياء والأولياء، وهي سواءٌ سُميت معاجزَ أو كراماتٍ أو غير ذلك، فهي كلّها بمعنى واحد، إذ تفيد التصرّف بالظاهرة الكونية بخلاف نظام العليّة المتعارف.
فالولاية التكوينية هي قدرة إعجازية يمنحها المولى سبحانه لأنبيائه وأوليائه، وتكون بإذنه وإرادته، وهي ليست تصرفًا مستقلًّا من الأنبياء والأولياء، بل هي قدرة إعجازية تمنح منه سبحانه لإثبات نبوة أنبيائه وبيان فضلهم، كما في قوله تعالى حكايةً عن نبيه عيسى بن مريم (عليه السلام) أنه قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله} [آل عمران:49]، فهو بالنتيجة خلقُ الله، ولكن بواسطة عيسى (عليه السلام).
ومن الأولياء والأوصياء الذين منحهم الله سبحانه هذه القدرة آصف بن برخيا وصي سليمان (عليه السلام)، قال تعالى: {قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى}،[النمل:40]، فالآية صريحةٌ في أنّ سليمان (عليه السلام) طلب ممّن خصّهم‏ بالخطاب الإتيان بعرش بلقيس في لحظات، مع علمه (عليه السلام) بالمسافة الشاسعة بين اليمن الذى هو مكان عرش بلقيس، وبين فلسطين التي كان فيها سليمان (عليه السلام)، فقام إليه الذى عنده علمٌ من الكتاب، وهو آصف بن برخيا وصيّ سليمان ووزيره، وجاء بذلك العرش بأقلّ من طرفة عين، ولا شكّ أنّ صدور هذا الفعل منه يكشف عن قدرته على التصرّف في التكوين.
فهذه القدرات الممنوحة للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، كما هي ممنوحة للأنبياء في هذا الجانب، هي مشروطة بأن لا تكون في المجال المنافي لسلب الاختيار من الناس في التكليف، وقد أشار ابن تيمية إلى هذا المعنى في كتابه “منهاج السنة” من أنّ تنصيب الأئمة لا يعني أن يكون عند الإمام سيفٌ يحارب به الناس ليجبرهم على طاعته، بل جعله بحيث يجب على الناس اتباعه، سواء أطاعوه أم عصوه، حيث قال: ((قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُون} السجدة:24، وقد قال تعالى لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} البقرة:124، ولم يكن بأن جعله ذا سيف يقاتل به جميع الناس، بل جعله بحيث يجب على الناس اتباعه، سواء أطاعوه أم عصوه)). [منهاج السنّة النبوية، ج7، ص109].
فابن تيمية هنا ينفي الجبر مع التنصيب الإلهي للنبوة أو الإمامة.
والولاية التكوينية قد تمنح للمتقين أيضًا من الناس تفضلًا منه سبحانه، كما هو مقتضى الحديث الصحيح الوارد في البخاري وغيره: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)) [صحيح البخاري، ج7، ص190]، ورواه بلفظه ثقة الإسلام الكليني في أصول الكافي، الحديث السابع، بسنده عن الصادق جعفر بن محمد عن جده رسول الله صل الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل. [أصول الكافي، ج2، ص352].
وقال ابن تيمية في كتابه “النبوات”: ((فإذا كان آية نبي إحياء الله الموتى لم يمتنع أن يحيي الله الموتى لنبي آخر أو لمن يتبع الأنبياء، كما قد أحيى الميت لغير واحد من الأنبياء ومن تبعهم، وكان ذلك آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة من قبله إذا كان إحياء الموتى مختصًّا بالأنبياء وأتباعهم)).
وقال في الكتاب نفسه: ((فإنّه لا ريب أنّ الله خصّ الأنبياء بخصائص لا توجد لغيرهم، ولا ريب أنّ من آياتهم ما لا يقدر أن يأتي به غير الأنبياء بل النبي الواحد له آيات لم يأت بها غيره من الأنبياء كالعصا واليد لموسى وفرق البحر، فإنّ هذا لم يكن لغير موسى، وكانشقاق القمر والقرآن وتفجير الماء من بين الأصابع وغير ذلك من الآيات التي لم تكن لغير محمد من الأنبياء وكالناقة التي لصالح، فإنّ تلك الآية لم يكن مثلها لغيره، وهو خروج ناقة من الأرض بخلاف إحياء الموتى، فإنّه اشترك فيه كثير من الأنبياء، بل ومن الصالحين )) [النبوات، ص218].
وقد نقل ابن تيمية ـ وكذلك ابن حجر العسقلاني ـ عن شيبان النخعي أنه كان له حمارٌ، فمات في الطريق، فقال له أصحابه: هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم: أمهلوني هنيهة، ثم توضأ، فأحسن الوضوء، وصلى ركعتين، ودعا الله تعالى، فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه. [انظر: مجموع الفتاوى، ج11، ص281؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج5، ص192].
وأيضا يَنقل أهل السنّة في كتبهم عن إطاعة العناصر الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار) لعمر بن الخطاب، قال السخاوي في “التحفة اللطيفة” في ترجمة عمر بن الخطاب: ((وترجمته تحتمل مجلدًا ضخمًا، وممن أفردها الذهبي في “نعم السمر في سيرة عمر” وقد أطاعته العناصر الأربع، فإنه كتب لنيل مصر، وقد بلغه أن عادته أن لا يوفي إلّا ببنت تلقى فيه، فقطع الله من كتابه هذه العادة المذمومة، والهواء حيث بلغ صوته إلى سارية، والتراب حين زلزلت الأرض، فضربها بالدرة، فسكنت، والنار حيث قال لشخص: أدرك بيتك فقد احترق)) [التحفة اللطيفة، ج2، ص337].
وبهذا اللحاظ إذا ادّعى الشيعة الإمامية لأئمتهم (عليهم السلام) قدرات من هذا النوع، منحها الله سبحانه لهم فلا يحقّ لأحد الاعتراض على ذلك؛ لأنَّ حكم الأمثال فيما يجوز، ولا يجوز واحد من هذه الناحية.
وعليه، فالشيعة تعتقد أن الله سبحانه يمنح الأنبياء وأوصياءهم قدرات تتناسب مع حجم مسؤولياتهم، فيستفيدون منها على وفق ضوابط يرضاها، وفي حدودٍ لا تؤدي إلى مصادرة الحريات التي منحها الله تعالى للناس، ولا تؤدي إلى التصادم مع اختيارهم، فهو جلّت قدرته لم يمنع بني إسرائيل من قتل الأنبياء بغير الحق، وحين كان لا بدّ من التدخل، نجد أن تدخله سبحانه قد حصل خارج دائرة اختيار الناس، فلم تتدخل الإرادة الإلهية في اختيار القوم إحراق إبراهيم (عليه السلام) بالنار، وإنما تدخلت خارج دائرة اختيارهم، فحالت بين النار وبين الإحراق كما بيّنه سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، ولو أن إرادته سبحانه حالت بينهم وبين اختيارهم لكانت لهم الحجة على الله تعالى، ولظنوا أنه تعالى يظلمهم بذلك.
والمعصوم لا يلجأ إلى العمل بالولاية التكوينية دائمًا، بل هو مأمور بالعمل بالأخذ بالأسباب الظاهرية غالبًا.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.