مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

ما معنَى قولِ الإمامِ الحُسينِ (أذنَ اللهُ في قتلِي وقتلِكُم)؟

تفاصيل المنشور

السؤال

السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ.. وعظّمَ اللهُ أجورَكُم بذِكرى عاشوراءِ الحُسينِ عليهِ السّلامُ… قالَ إبنُ قولويه: لمّا أصبحَ الحسينُ عليهِ السّلامُ يومَ عاشوراءَ وصلّى بأصحابهِ صلاةَ الصّبحِ قامَ خطيباً فيهِم… ثمَّ قالَ : ( إنَّ اللهَ تعالى أَذِنَ في قتلِي وقتلِكُم في هذا اليومِ..)

السّؤالُ: لِماذا عبَّرَ الإمامُ عليهِ السّلامُ بالفعلِ (أَذِنَ)؟ وما دَخلُ الإذنِ الإلهيّ في القتلِ؟

السائل

مهدي الخزاعي

تفاصيل المنشور

السؤال

السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ.. وعظّمَ اللهُ أجورَكُم بذِكرى عاشوراءِ الحُسينِ عليهِ السّلامُ… قالَ إبنُ قولويه: لمّا أصبحَ الحسينُ عليهِ السّلامُ يومَ عاشوراءَ وصلّى بأصحابهِ صلاةَ الصّبحِ قامَ خطيباً فيهِم… ثمَّ قالَ : ( إنَّ اللهَ تعالى أَذِنَ في قتلِي وقتلِكُم في هذا اليومِ..)

السّؤالُ: لِماذا عبَّرَ الإمامُ عليهِ السّلامُ بالفعلِ (أَذِنَ)؟ وما دَخلُ الإذنِ الإلهيّ في القتلِ؟

الأخ مهدي المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الإذْنُ هوَ الإعلامُ بإِجازةِ الشّيءِ والرّخصةِ فيهِ، ويُقصدُ بهِ في الشّرعِ فكُّ الحَجْر وإطلاقُ التّصرّفِ لمَنْ كانَ ممنوعاً منهُ شرعاً، وجاءَ في جواهرِ الكلامِ هوَ: “التّرخيصُ ممَّنْ بيدهِ الأمرُ بالتّصرّفِ في مالهِ أو حقّهِ، ورفعِ المنعِ‏ عنهُ”(1). وقالَ المُحقّقُ الأصفهانيُّ: “الإذنُ حقيقتهُ التّرخيصُ وإرخاءُ العنانِ، أو إظهارُ الرّضا بهِ”(2)

وعليهِ لا يجوزُ التّصرّفُ في مُلكِ الغيرِ إلّا بإذنِ المالكِ، وإذا جازَ أنْ يجريَ هذا المعنَى في الحقوقِ الاِعتباريّةِ وما يملكهُ الإنسانُ في هذهِ الدّنيا، فمِنْ بابِ أولى جريانهُ في حقِّ المالكِ الحقيقيّ لجميعِ الخلقِ، وهوَ اللهُ سبحانهُ الذي أعطى الأشياءَ وجودَهَا ونظامَهَا وهوَ الذي يمنحُهَا غايتهَا ومُنتهاها، وبالتّالي هوَ المالكُ الحقيقيُّ والمهيمنُ على كلِّ مخلوقٍ، قالَ تعالى: ﴿وَللهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (42)﴾(3)، ولا يشذُّ الإنسانُ عَن هذهِ القاعدةِ الشّاملةِ، فهوَ ليسَ إلّا مخلوقاً مربوباً للهِ تعالى، لا يَملكُ مِنْ وجودهِ ومِنْ شؤونهِ حَولاً ولا قوّةَ: ﴿هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾(4)، ولكنَّ غرورَ الإنسانِ وجهلَهُ يَحجبهُ عَن رؤيةِ هذهِ الحقيقةِ الواضحةِ ﴿يا أَيُّهَا الإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾(5) ، فالإنسانُ في منطقِ القُرآنِ، كائنٌ مغرورٌ بنفسهِ مِنْ غيرِ أن يملِكَ مُبرّراً لغرورهِ، إذ لا يملكُ شيئاً مِنْ دونِ اللهِ، فهوَ ليسَ إلّا مخلوقاً طارئاً على هذا الوجودِ، مضطرّاً في وجودهِ وبقائهِ للهِ تعالى، وعليهِ ليسَ إلّا عبداً مملوكاً لسيّدهِ.

و مِنْ طبيعةِ المُقابلةِ بينَ اللهِ الخالقِ والمالكِ لخلقهِ، وبينَ الإنسانِ المخلوقِ المملوكِ لسيّدهِ، تأتي حقيقةُ (الحاكميّةِ) المُطلقةِ للهِ سبحانهُ على البشرِ جميعاً، بحيثُ لا يجوزُ للإنسانِ أنْ يتصرّفَ في مُلكِ اللهِ، إلّا بإذنٍ منهُ تعالى، حتّى لو كانَ ذلكَ التّصرّفُ في نفسهِ أو جسدهِ أو أقربِ الأشياءِ إليهِ، لأنّهُ في الواقعِ ليسَ مالكاً لشيءٍ مِنهَا، فكلُّ ما هوَ مخلوقٌ، مربوبٌ للهِ تعالى، خاضعٌ ومُسلِّمٌ لهُ، يقولُ تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ﴾ (6)، فالسّجودُ كاشفٌ عَن خضوعِ كلِّ الوجودِ للهِ تعالى، والإنسانُ المؤمنُ ينسجمُ بإرادتهِ معَ ذلكَ الخضوعِ الكونيّ، وبالتّالي ما خُصَّ بهِ الإنسانُ دونَ سائرِ المخلوقاتِ مِن حُرّيّةٍ وإرادةٍ، لا تُخرجهُ مِنْ ملكوتِ اللهِ وحاكميّتهِ المُطلقةِ، كما لا تُحرّرُ الإنسانَ مِن واقعِ فقرهِ وحاجتهِ للهِ سبحانهُ وتعالى.

ومِنْ هُنا لا نفهمُ أيَّ عملٍ يقومُ بهِ الإنسانُ ما لَم يقَعْ هذا العملُ في دائرةِ الإذنِ الخاصِّ أو العامِّ، حتّى دعوةُ الأنبياءِ وإرشادُ النّاسِ للهدايةِ لا يكونُ إلّا بإذنٍ منهُ سبحانهُ، قالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾. وعليهِ فإنَّ تحرُّكَ الإنسانِ خارجَ دائرةَ الإذنِ الإلهيّ ليسَ إلّا جحوداً واِفتراءً على اللهِ، قالَ تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ (7)

وأولياءُ اللهِ الذينَ جعلهمُ اللهُ حُججاً على بريّتهِ يتصرّفونَ بإذنِ اللهِ في كلِّ فعلٍ حتّى تُصبحَ جميعُ أعمالهِم موافقةً لإرادتهِ تعالى، فلا يريدونَ إلّا ما أرادَ اللهُ، وكلّمَا كانَ العبدُ قريباً منَ الحقِّ سبحانهُ كلّمَا كانَتْ إرادتهُ أقربَ إليهِ وموافقةً لهُ.

ومنَ الواضحِ أنَّ تعريضَ الإنسانِ لنفسهِ ومَنْ معهُ للموتِ الحتميّ أمرٌ غيرُ مُجازٍ ما لَم يكُن بإذنٍ منَ اللهِ تعالى، ومِنْ هُنا نفهمُ ما قامَ بهِ الحسينُ (عليهِ السّلامُ) مِنْ تقديمِ نفسهِ قُرباناً للحقِّ كانَ تنفيذاً لإرادةِ اللهِ ومشيئتهِ، فبعدَما اِنحرفَ المشروعُ الإسلاميُّ ووصلَ بهِ الأمرُ إلى مُفترقِ طُرقٍ بينَ أنْ يكونَ أو لا يكونَ، ولم يبقَ أمامَ الإمامِ الحُسينِ (عليهِ السّلامُ) إلّا التّضحيةُ بدمهِ الشّريفِ، كمَا بشّرهُ بذلكَ الرّسولُ الأكرمُ في كثيرٍ منَ الأخبارِ والرّواياتِ، فقَد رَوى الشّيخُ الصّدوقُ في الأمالي أنَّ الحسينَ لمَّا غفى على قبرِ جدّهِ، ورآهُ في المنامِ قالَ لهُ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ: إنَّ لكَ في الجنّةِ درجاتٍ لا تنالُهَا إلّا بالشّهادةِ.

ومعَ أنَّ خروجَ الحُسينِ (عليهِ السّلامُ) كانَ يُمثّلُ الإسلامَ كلّهُ في قبالِ النّفاقِ كلّهِ إلّا أنَّ الأمّةَ ما زالَت في ريبٍ وتردّدٍ فلَم يصمُد معهُ إلّا النّفرُ القليلُ، ومِنْ هُنا كانَ تأكيدُ الحُسينِ لهم بأنَّ قتلَهُم ليسَ إلّا تنفيذاً لإرادةِ اللهِ ومشيئتهِ، وأنَّ اللهَ سوفَ ينصرُ دينهُ بدمائِهِم الزّكيّةِ، فقالَ لهُم: (إنَّ اللهَ أذِنَ في قتلِي وقتلِكُم) تثبيتاً لهُم وتبشيراً بمَا خصّهُم اللهُ مِن كرامتهِ، كمَا تؤكّدُ هذهِ الكلمةُ على أنَّ مشروعَ الحُسينِ (عليهِ السّلامُ) يمثّلُ مُفارقةً جوهريّةً، بينَ الإسلامِ في صورتهِ المُزيّفةِ التي سُخِّرَ فيهَا الدّينُ مِن أجلِ الأنا والمصلحةِ الذّاتيّةِ، وبينَ الإسلامِ الحقيقيّ، الذي سَخَّرَ الإنسانُ فيهِ كلَّ ما يملكُ مِن أجلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

ودمتم سالمين

_______________

1- جواهر الكلام، ج۲۷، ص409- 4۱۰

2- حاشيةُ المكاسب (الأصفهاني)، ج۲، ص۷۷

3- سورةُ النّور/42.

4- سورةُ الإنسانِ/1.

5- سورةُ الاِنفطارِ/6-8.

6- سورةُ الحجِّ/18.

7- يونس 59