مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

لوازم القولِ بعدم عصمة الأنبياء والأئمة

تفاصيل المنشور

الاشكال

ما هي العصمة؟ وإذا كان الله تعالى قد عَصم الأنبياء والأئمة فكيف يَطلب الله من عباده الاهتداء بهديهم والاقتداء بهم، وهم قد فعلوا ما فعلوه بفعل العصمة فيهم!! ثم ما المانع من أن يكون الأنبياء أو الأئمة غير معصومين؟!

المستشكل

عبد الله الغانمي

تفاصيل المنشور

الاشكال

ما هي العصمة؟ وإذا كان الله تعالى قد عَصم الأنبياء والأئمة فكيف يَطلب الله من عباده الاهتداء بهديهم والاقتداء بهم، وهم قد فعلوا ما فعلوه بفعل العصمة فيهم!! ثم ما المانع من أن يكون الأنبياء أو الأئمة غير معصومين؟!

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..
العصمةُ لطفٌ إلهيّ يمنحه الله لمن اصطفاه في قوة العقل والبصيرة بحيث يرى معها حقائق الذنوب أمامه وعواقبها بقوة كبيرة تأنف نفسه بها أن تُقبل على ارتكاب أيّ ذنب، وهي لا تعني الجبر وسلب الاختيار، فقد قال الشيخ المفيد (ره) في النكت الاعتقادية: ((العصمة لطف، يفعله الله بالمكلف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما)) [النكت الاعتقادية، ص37، “ضمن مصنفات المفيد، ج10”].
وقال العلامة الحلي في “الباب الحادي عشر”: ((العصمة لطفٌ بالمكلف بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك)) [الباب الحادي عشر، ص37].
وأضاف الشيخ المظفر في كتابه “عقائد الإمامية” قائلًا: ((بل يجب أن يكون منزَّها عما ينافي المروّة، كالتبذل بين الناس من أكلٍ في الطريق أو ضحكٍ عال، وكل عمل يُستهجن فعله عند العرف العام)) [عقائد الإمامية، ص287-288].
وممن عرّفها من علماء أهل السُّنة، الجرجاني، فقال: ((‌العصمة: ‌ملَكةُ ‌اجتناب ‌المعاصي مع التمكُّن منها)). [التعريفات، ص131].
وقريب منه ما في التحرير وشرحه التيسير: ((خُلقٌ مانع من المعصية غير ملجئ إلى تركها. وإلا يلزم الاضطرار المنافي للابتلاء والاختيار)) [تيسير التحرير على كتاب التحرير، محمد أمين المكي، ج3، ص20]
ونقل ابن عاشور في كتابه “التحقيقات” كلام “الماتريدي” مبينًا مراده وموضحًا ما ذهب إليه، قائلًا: ((وقال أبو منصور الماتريدي: ‌العصمة ‌لا ‌تزيل ‌المحنة، يعني لا تجبر المعصوم على الطاعة، ولا تجيره من المعصية، بل هي لطف الله تعالى، يحمله على فعل الخير، ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقًا للابتلاء)) [تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة، لابن عاشور، ص43].
وقال الكفوي في كتابه “الكليات”: ((قال صاحب ” البداية ” ومعناه – يعني قول أبي منصور – أنها ‌لا تجبره ‌على ‌الطاعة، ‌ولا تعجزه ‌عن ‌المعصية، بل هي لطفٌ من الله، يحمل العبد على فعل الخير، ويزجره عن فعل الشر مع بقاء الاختيار تحقيقًا للابتلاء»[الكليات، لأبي البقاء الكفوي، ص645].
فتحصَّل مما تقدم أنّ العصمة في كلمات علماء المسلمين – إلا من شذّ منهم – لا تعني الجبر وسلب الاختيار من المعصوم، وعليه، فلا وجه لقول المستشكل: (كيف يطلب الله من عباده الاهتداء بهديهم والاقتداء بهم، وهم قد فعلوا ما فعلوه بفعل العصمة فيهم…)، لأنه ـ كما هو واضح من نصِّ كلامه ـ قد حمل العصمة على الجبر وسلب الاختيار، وهو قول فاسد، لا اعتداد به، ولا نظر إليه لما بيَّنّاه آنفًا.
والشيعة الإمامية الاثني عشرية تعتقد بعصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) مطلقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وذلك لمحل الأمر بإطاعتهم المطلقة من قبل الله عزّ وجل، ومن كانت إطاعته مطلقة فلا بدّ أن يكون معصومًا.
قال الفخر الرازي في تفسيره للآية الكريمة: ((إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصومًا عن الخطأ ؛ إذ لو لم يكن معصومًا عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرًا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأً منهيٌّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كلَّ مَن أمَر اللهُ بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصومًا عن الخطأ ، فثبت قطعًا أنّ أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصومًا )) [ تفسير الرازي، ج10، ص144].
وقد ثبت أنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم ولاة الأمر في الأمّة، وتنصيبُهم في أنهم خلفاء شرعيون من الله بنصّ حديث الثقلين المتواتر والمتسالم عليه بين الفريقين، الذي ورد في أحد نصوصه: ((أني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله، حبل ممدود ما بين الأرض والسماء، وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض)) [صحيح الجامع الصغير للألباني، ج1، ص482، مسند أحمد بن حنبل، برقم:21654، تصحيح شعيب الأرنؤوط].
وكذا وردت نصوص قرآنية ونبوية أخرى تثبت عصمة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل حديث الثقلين المتقدِّم نفسه يدل على العصمة، فقوله: ((وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض)) يثبت العصمة للعترة الطاهرة؛ لأنّ من لا يفارق القرآن، ولا يفارقه القرآن أبدًا لا بدّ أن يكون معصومًا.
وعن قولك: (… ما المانع من أن يكون الأنبياء أو الأئمة غير معصومين…).
يُجاب: قد تقدّم في الآية 59 من سورة النساء لزوم الإطاعة المطلقة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولولاة الأمر، فهنا لو جوَّزنا على الأنبياء والأئمة ولاة الأمر الشرعيين المعصية، والناس مأمورون بإطاعتهم مطلقًا، ستكون النتيجة تجويز ارتكاب المعاصي شرعًا، من جهة احتمال ارتكابهم الخطأ لعدم عصمتهم ولزوم إطاعة الناس لهم مطلقًا (وهذا الاحتمال وارد عقلًا)، والتجويز المذكور لارتكاب المعاصي شرعًا محالٌ في الحكمة الإلهية كما تقدّم بيانُه عن الفخر الرازي، وعليه لا بدّ أن يكون النبي والإمام معصومًا.
وقد ذكر بعض المحقِّقين تسعة أدلّة عقليّة في لزوم عصمة الأنبياء، نذكر بعضًا منها:
1 – أنه لو انتفت العصمة لم يحصل الوثوق بالشرائع والاعتماد عليها، فإن المبلِّغ إذا جوَّزنا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدًا أو نسيانًا أو يترك شيئًا مما أُوحي إليه أو يأمر من عنده، فكيف يبقى اعتمادٌ على أقواله؟
2 – أنه إن فعل المعصية فإما أنْ يجب علينا اتباعه فيها، فيكون قد وجب علينا فعْل ما وجب تركه، واجتمع الضدان، وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة .
3 – أنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبرّي منه؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الله تعالى نصَّ على تحريم إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [الأحزاب:57].
4 – أنه يلزم بعصيانه سقوط محلِّه ورتبته عند العوام، فلا ينقادون إلى طاعته، فتنتفى فائدة البعثة.
5 – أنه يلزم أن يكون أدون حالًا من آحاد الأمة؛ لأن درجة الأنبياء في غاية الشرف، وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه فحش كما قال تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، والمحصَن يُرجم، وغيره يُحَدُّ، وحدُّ العبد نصف حدِّ الحرّ، والأصلُ فيه أنّ علمهم بالله أكثر وأتم، وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته، ومن المعلوم أنّ كمال العلم يستلزم معرفته والخضوع والخشوع له في صدور الذنب، لكن الإجماع دل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجوز أن يكون أقلَّ حالًا من آحاد الأمة.
6 – أنه يلزم أن يكون مردود الشهادة لقوله تعالى: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فكيف يقبل عموم شهادته في الوحي وأحكام الله تعالى، ويلزم أن يكون أدنى حالًا من عدول الأمة، وهو باطل بالإجماع.
7 – أنه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به لقوله تعالى: {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران:31]، والتالي باطل؛ لأنه لو لم يكن معصومًا لكان محل إنكارٍ ومورد عتابٍ كما في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44]، وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]، فيجب أن يكون مؤتمرًا بما يأمر به منتهيًا عما ينهى.
8 – أنه لو لم يكن معصومًا لانتفى الوثوق بقوله ووعده ووعيده، فلا يطاع في أقواله وأفعاله، فيكون إرساله عبثًا.
9 – أنه يقبح من الحكيم أن يكلِّف الناس باتباع من يجوز عليه الخطأ، فيجب كونه معصومًا؛ لأنه يجب صدقه؛ إذ لو كذب ـ والحال أن الله أمرَنا بإطاعته ـ لسقط محلٌّه عن القلوب، فتنتفي فائدة بعثته. [ينظر: عقائد الإمامية الاثني عشرية، للزنجاني، ج1، ص41-43].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.