مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

كيف يُفهم تحريم الخمر من الأمر القرآني باجتنابه؟

تفاصيل المنشور

السؤال

من الشبُهات المنتشرة حاليًّا أنّ البعض يقول: إن الخمر ليس بحرامٍ؛ لأن الله تعالى في القرآن ‏الكريم ‏قال: اجتنبوه، وهذا لا يعني أنه حرام …. ننتظر ردَّكم، وفّقكم الله تعالى.

السائل

أحمد

تفاصيل المنشور

السؤال

من الشبُهات المنتشرة حاليًّا أنّ البعض يقول: إن الخمر ليس بحرامٍ؛ لأن الله تعالى في القرآن ‏الكريم ‏قال: اجتنبوه، وهذا لا يعني أنه حرام …. ننتظر ردَّكم، وفّقكم الله تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمدٍ وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، ‏وهُداة الأنام.‏
صيَغ التحريم في القرآن الكريم كثيرةٌ ومتنوعة، نذكر أبرزها تمهيدًا للجواب:‏
‏1 – التحريم بلفظٍ صريح، وما يُشتقُّ منه، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ‏‏[النساء:۲۳]، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٥]، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ‏عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:٩٦]، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ‏عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:١٤٥].‏
‏۲ – التحريم بصيغة النهي ولفظه، والنهيُ يدلُّ على التحريم، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا ‏الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الأنعام:١٥١]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ ‏الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:١٥٢]، وما ورد بلفظ النهي مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ‏بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، وهذا ‏القسم أكثرُ الأساليب استعمالًا للدَّلالة على التحريم.‏
‏4 – العقوبة المترتِّبة على الفعل، سواء كانتْ في الدنيا أم في الآخرة أم فيهما، مثل قوله تعالى ‏‏{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً ‏أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤]، فالقذف حرامٌ لترتُّب عقوبة الجَلد عليه، وقوله تعالى: ‏‏{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء:۹۳]، فالقتل حرامٌ لتوعُّد فاعله بالنار.‏
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا ‏وَالْآخِرَةِ} [النور:۱۹]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي ‏بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]، فأكْلُ مال اليتيم حرامٌ لتشبيهه بأكل النار والتهديد على فعله ‏بالعذاب يوم القيامة.‏
‏5 – الألفاظ التي تدلُّ على إنكار الفعل بصيغةٍ مشدَّدة، مثل غضب الله، ولعن الله، والتحذير من ‏الفعل مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا ‏مُهِينًا} [الأحزاب:57]‏.
‏6 – ومن تلك الصيَغ التي تدلُّ على التحريم الأمرُ باجتناب الفعل، مثالُه الآية التي نحن بصدد ‏الحديث عنها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ ‏وَالْأَزْلَامُ ‏رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:۹۰].
وبعد أن عرفتَ أنّ صيَغ التحريم في القرآن الكريم كثيرةٌ ومتنوِّعة، فيُجاب عن القول بأن لفظ (اجتنبوه لا يعني أنه حرام) من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول:- قال سبحانه {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف:33]، والمراد بالإثم ما يوجبه، وهو الخمر، وجاء في كتاب “الزاهر” أنّ الإثم عند العرب من أسماء الخمْر، وأنشد ابن السكيت:
شربْتُ الإثمَ حتى ضلَّ عقلي * كذاك الإثمُ يذهبُ بالعقولِ
وأنشد بعضهم في مجلس أبي العباس “نشربُ الإثمَ بالصُّواع جهارًا”. [يُنظر الزاهر في معاني كلمات الناس، للأنباري، ص٤١٠‏].
وبِضَمِّ قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، إلى ما ذكرناه في الآية السابقة، نخرج بنتيجةٍ مفادها أنّ الله سبحانه حكَم في تلك الآية بكون ما يوجب الإثم محرَّمًا، وحكَم في هذه الآية بكون الخمْر والميِسر مما يوجب الإثم، فثبتَ بمقتضاهما تحريمهما، فنقول: الخمر مما يوجب الإثم، وكلُّ ما يوجب الإثم فهو محرَّم، فالخمر محرَّم. [يُنظر: هامش الكافي، ج6، ص407]
الوجه الثاني:- الأمر بالاجتناب في قوله سبحانه: ‏{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}‏، لفظٌ استخدم في الزجر عن الأوثان وعبادتها، قال سبحانه: ‏{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ ‏الزُّورِ}‏‏‏[الحج:30]‏، وقال: ‏{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا ‏الطَّاغُوتَ} ‏‏[النحل:36]‏، وقال: ‏{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر:17].‏
كما استخدم لفظُ ‏الاجتناب في ترك كبائر الذنوب والآثام، قال ‏تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ ‏عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ‏الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} ‏‏[النجم:32]‏.
فالاجتناب آكدُ في التحريم من مجرَّد لفظ “حُرِّم”؛ لأن في الاجتناب معنًى زائدًا على ‏مجرَّد ‏التحريم، وهو البُعد كليةً عن الشيء المنهيِّ عنه. قال العلّامة الطباطبائي في الميزان: ((وأما قوله تعالى: “فاجتنبوه لعلكم تفلحون”، فتصريحٌ بالنهي بعد بيان المفسدة، ليكون أوقعَ في ‏النفوس، ثم ترجٍّ للفلاح على تقدير الاجتناب، وفيه أشدُّ التأكيد للنهي، لتثبيته أنْ لا رجاء لفلاحِ ‏مَن لا يجتنب هذه الأرجاس)) [تفسير الميزان، ج٦، ص١٢٢‏]. ‏ ‏
وجاء في تفسير التبيان للشيخ الطوسي: ((قوله “فاجتنبوا” أمرٌ بالاجتناب، أيْ كونوا جانبًا منه في ناحيةٍ، “لعلكم تفلحون”، ومعناه لكي تفوزوا بالثواب. وفي الآية دلالةٌ على تحريم الخمر، وهذه الأشياء الأربعة من أربعة أوجُه:
أحدها: أنه وصفَها بأنها رِجسٌ، وهي النجَس، والنجَس محرَّمٌ بلا خلاف.
الثاني: نسَبها إلى عمل الشيطان، وذلك لا يكون إلّا محرَّمًا.
والثالث: أنه أمَرنا باجتنابه. والأمرُ يقتضي الإيجاب.
الرابع: أنه جعل الفوزَ والفلاح باجتنابه. والهاء في قوله “فاجتنبوه” راجعةٌ إلى عمل الشيطان، وتقديره: اجتنبوا عمل الشيطان)) [التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج٤، ص١٧‏].
وجاء في تفسير الأمثل: ((أنّ لتعبير “فاجتنبوه” مفهومًا أبعد؛ إذ إنّ الاجتناب يعني الابتعاد والانفصال وعدم الاقتراب، مما يكون أشدَّ وأقطعَ من مجرَّد النهي عن شرب الخمر)) [الأمثل في تفسير كتاب الله المنزَّل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج٤، ص١٤١‏].
فكلما كانتِ الحرمةُ شديدة جاء التعبير بلفظ الاجتناب، بدليل قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ ‏الْأَوْثَانِ} [الحج:30]، ومعلومٌ أنه ليس هناك ذنبٌ أعظم من الشرك بالله عزّ وجلّ، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48].‏
الوجه الثالث:- لو فسّرنا “الاجتناب” في الآية المذكورة وسواها من آيات القرآن الكريم بمعنى مغايرٍ للتحريم، لفتحنا الباب أمام إباحة كثيرٍ من الرذائل والموبقات، بما في ذلك الشرك بالله الذي لا خلاف على حرمته؛ لأن الأمر بالاجتناب عنها ورد في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، منها:‏ قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، ومنها، قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، ومنها، قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى ‏عَلَيْكُمْ ‏فَاجْتَنِبُوا ‏الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏} [الحج:30]، ومنها، قوله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏} [الشورى:37]، ومنها، قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32].
فالمُجتنَبات في الآيات الكريمة ليست بالأمور التي يسهُل تأويل عدم حرمتها، فالآية الأولى تحدَّثت عن “كَبَائِر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ”، والثانية عن “الطَّاغُوت”، والثالثة عن “‏الرِّجْس مِنَ الْأَوْثَانِ” و”قَوْل الزُّورِ”، والرابعة والخامسة عن “كَبَائِر الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ”، فلو فُسِّر الاجتناب بغير التحريم، لكانت النتيجة إباحةَ ما حرّمتْه النصوص القرآنية صراحةً، وهي كما اتَّضح من أعظم الكبائر وأقبح الموبقات.
وبناءً على ما سبق، فإنّ تفسير “الاجتناب” بغير التحريم في مثل هذه السياقات يُفضي إلى نتائجَ تناقض النصوصَ القرآنية الصريحة بحرمةِ كثيرٍ من المُجتنَبات.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.