المستشكل = أيمن العاني
الإشكال = قلتُم عليٌّ نفس رسول الله على زعمكم.. وإذا كان ذلك صحيحًا فلماذا لم يُنِبْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليًّا للصلاة بالمسلمين في مدة مرضه، وأناب بدلًا منه الصديق؟ لماذا لم يقل عليٌّ: يا مسلمون، أنا نفس رسول الله بآية المباهلة؟ هل رسول الله كان لا يعرف أن عليًّا نفسه، ويجب أن يحل محلَّه في ما كان يفعله رسول الله؟ هل أجد إجابة أو إنّ العقيدة تخذُلكم، وتفشّلكم!!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
ذكرنا مرارًا وتكرارًا أنّ الاحتجاج لا يصح إلّا بما اتّفق الفريقان على ثبوته أو ثبوت صحة معناه، ولكنْ لا حياة لمن تنادي.
إن الاستدلال بقصة صلاة أبي بكر على أولوية خلافته التي أَشبهتْ روايتُها روايةَ طائر العنقاء الخرافيّ، قد أبطل ابنُ تيمية في منهاجه بناء الاستخلاف على أساسها بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال في “منهاج السُّنة”: ((وليس كلُّ من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يَصلُح أن يُستخلف بعد الموت، فإنّ النبي استخلف غيرَ واحدٍ، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، كما استعمل ابنَ أمِّ مكتوم الأعمى في حياته، وهو لا يَصلح للخلافة بعد موته، وكذلك بشير بن عبد المنذر وغيره)) [منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، ج7، ص339].
وعلاوة على ذلك، فإنه لم يَثبت أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أناب أبا بكر للصلاة عنه بالمسلمين جماعةً؛ لاضطراب الروايات الواردة في هذه القضية على نحوٍ كبير جدًّا.
فتارةً يُروى أنّ الذي صلى بالناس هو أبو بكر، ثم خرج رسول الله، وصلى بهم، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. [انظر: صحيح البخاري، ج1، ص162].
وهذا النص يدلّ على أنّ الذي صلى بالناس حقيقةً، وكان إمامًا لهم هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس أبا بكر، وإلّا وقع القوم في إشكالِ تصحيحِ هذه الصلاة بإمامين.
وأخرى يُروى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، صلى خلف أبي بكر قاعدًا. [يُنظر: مسند أحمد، ج3، ص159].
وثالثة يُروى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، صلى إلى جنب أبي بكر عن يساره. [يُنظر: مسند أحمد، ج1، ص233].
ورابعة يُروى أن الذي صلى بالناس أولًا هو عمر، ثم جاء أبو بكر، وصلى بهم. [يُنظر: مسند أحمد، ج4، ص322].
وعلى رغم ذلك، فقد ثبت في مصادر أهل السُّنة أنّ صلاة أبي بكر في مرض النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم تكن بأمرٍ منه، ففي مسند أحمد بن حنبل ((عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسدٍ، قال: لما استُعِزّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا عنده في نفر من المسلمين، قال: دعا بلال للصلاة، فقال: ” مروا من يصلي بالناس “، قال: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبًا، فقال: قم يا عمر فصلِّ بالناس)) [مسند أحمد، ج31، ص203، ط. الرسالة].
إذًا، جميع الروايات التي تسرد قصة صلاة أبي بكر بالمسلمين في مرض النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هي روايات مضطربةٌ اضطرابًا شديدًا، ومختلفةٌ اختلافًا فاحشًا، لا يمكن الجزم معه بوقوع مثل هذه الصلاة، فضلًا عن مخالفتها لحقيقةٍ تاريخيةٍ مفادها أنّ أبا بكر كان في بعث أسامة أيام مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن في المدينة، فكيف يتصوّر أن يأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة، وهو قد أمره بالخروج في بعث أُسامة؟!
فقد أجمعت المصادر على قضية سرية أسامة بن زيد، وأجمعت – أيضًا – على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمر الصحابة، كأبي بكر وعمر بن الخطاب وغيرهما، بالخروج في بعث أسامة، وهذا أمرٌ ثابت محقَّق، وبه اعترف ابن حجر العسقلاني في الفتح، وأكده بقوله: ))كان تجهيز أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين… فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعُه في اليوم الثالث، فعقد لأسامة لواءً بيده، فأخذه أسامة، فدفعه إلى بريدة، وعسكر بالجرف، وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم، فتكلم في ذلك قومٌ منهم… ثم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: أنفذوا بعث أسامة (([فتح الباري، لابن حجر، ج8، ص152].
فصلاة أبي بكر بالمسلمين جماعةً آنذاك ـ إنْ قلتم بصحة روايتها وثبوتها ـ يلزم منها إثبات تخلُّفه عن بعث أسامة الذي أمر به النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاء في بعض مصادر أهل السُّنة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن المتخلِّف عن بعث أسامة، فقال: ((لعن الله من تخلّف عن بعث أسامة)) [شرح المواقف، للإيجي، ج8، ص376 ؛ المِلل والنحل، للشهرستاني، ج1، ص29؛ وفيات الأعيان، لابن خلكان، ج1، ص610؛ تذكرة الحفاظ، للذهبي، ج4، ص104؛ طبقات الشافعية، للسبكي، ج4، ص87؛ شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، ج4، ص149؛ مرآة الجنان، لليافعي، ج3، ص289].
وعلى هذا فإن نص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) على أبي بكر غيرُ ثابتٍ حتى عند أهل السُّنة أنفسهم، بل الصحيح أنه (صلى الله عليه وآله) نصّ على عليٍّ (عليه السلام)، يؤكد ذلك ما رُوي في مصادر أهل السُّنة عن ابن عباس، أنه قال: ((لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة، فقال: “ادعوا لي عليًّا”، قالت عائشة: ندعو لك أبا بكر؟. قال: “ادعوه”، قالت حفصة: يا رسول الله، ندعو لك عمر؟. قال: “ادعوه”، قالت أم الفضل: يا رسول الله، ندعو لك العباس؟. قال: “ادعوه”، فلما اجتمعوا رفع رأسه، فلم يرَ عليًّا، فسكت. فقال عمر: قوموا عن رسول الله)) [مسند أحمد، ج5، ص357، ط. الرسالة؛ المعجم الكبير، للطبراني، ج12، ص113؛ جامع المسانيد، لابن الجوزي، ج4، ص138].
وعليه، يكون الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد دعا عليًّا (عليه السلام) للصلاة بالناس، إلا أن أزواجه عارضْنَ ذلك بشدة، فلم يُدعَ عليٌّ (عليه السلام) كما أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
أما قولك: (لماذا لم يقل عليٌّ: يا مسلمون، أنا نفس رسول الله بآية المباهلة).
جوابه: جاء في الصواعق المحرقة: ((وأخرج الدارقطني: أنّ عليًّا يوم الشورى احتج على أهلها، فقال لهم: أنشدكم بالله، هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحم مني، ومن جعله صلى الله عليه وسلم نفسه، وأبناءه أبناءه، ونساءه نساءه، غيري، قالوا: اللهم لا)) [الصواعق المحرقة ، ج2، ص454].
والإشكال نفسه يُوجَّه إلى المستشكل: لماذا لم يحتجّ أبو بكر في سقيفة بني ساعدة بقصة استخلاف النبي له للصلاة بالمسلمين أيام مرضه، إن كان يُعدّ دليلًا قويًّا على أنه الخليفة الأول بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. إلا أنّ التأريخ لم يذكر ولا رواية واحدة تبين احتجاج ابي بكر بهذه القصة إطلاقًا.
وختامًا فلنقرأ قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61]، ففي هذه الآية وردت أحاديث تلقَّتها الأمة بالقبول، وقال فيها العلماء قولًا واحدًا، هو أن معنى (أنفسنا وأنفسكم)، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب، (وأبناءنا) الحسن والحسين (ونساءنا) فاطمة. [يُنظر: تفسير ابن كثير، ج2، ص47].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.