مركز الدليل العقائدي

حركةُ السُّفن من الرياح إلى المحركات في ضوءِ القرآن الكريم‏

تفاصيل المنشور

الاشكال

القرآن يقول‏ {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ ‏لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.‏ بمعنى أنّ السفن تحرِّكها الرياح لوجود أشرِعتها، فتدفعها، واليوم تطوَّر وضعُ السفن، فلا شراع ولا رياح تحرِّكها مما يكذِّب القرآن.

المستشكل

وميض

تفاصيل المنشور

الاشكال

القرآن يقول‏ {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ ‏لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.‏ بمعنى أنّ السفن تحرِّكها الرياح لوجود أشرِعتها، فتدفعها، واليوم تطوَّر وضعُ السفن، فلا شراع ولا رياح تحرِّكها مما يكذِّب القرآن.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
بيانُ محلّ التوهُّم في الاستشكال المطروح:
التوهُّم ناشئٌ من فهْم الآية الكريمة على أنها تربط حركةَ السفن حصرًا بالرياح والأشرعة، وأنَّ أيَّ تطوُّر في وسائل النقل البحري ـ مثل استخدام المحرِّكات الحديثة ـ ينفي صحة هذا الوصف في القرآن.
بيانُ وجْه التوهُّم:
1 – افتراض أنّ الآية جاءت لتصف فقط الوسائل البحرية المتاحة في زمن نزول القرآن، ولا يمكن أن تشمل وسائل أخرى قد تظهر في المستقبل.
2 – التعامل مع النصِّ القرآني على أنه معادلةٌ علمية ثابتة لا تواكب التطور.
3 – التركيز على الوسيلة (الرياح) وتجاهُل أنّ الغاية من الآية هي التأكيد على قدرة الله وتسخيره للكون لخدمة الإنسان، سواء كان ذلك عبر الرياح أو أيةِ وسيلةٍ أخرى.
دفْع التوهم:
هذا الادِّعاء يعكس فهمًا قاصرًا للقرآن الكريم ولطبيعة الخطاب القرآنيّ، والردُّ عليه يتمحور حول الأمور الآتية:
أولًا: القرآن الكريم يخاطب البشرية بلغةٍ يفهمونها، وبأمثلةٍ من واقعهم المُعاش في زمنِ نزوله. فعندما يذكر السفنَ التي تتحرَّك بالأشرعة والرياح، فهو يصف الوسيلة التي عرَفها الناسُ في ذلك الوقت، دون أنْ يعني ذلك حصر الحركة بهذه الطريقة أو إنكار التطوُّر المستقبلي.
وقوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل:14]، يشير إلى حركة السُّفن فوق البحر بفعل الرياح أو الوسائل الطبيعية المألوفة، ولا يوجد في الآية ما يمنَع من تفسيرها لاحقًا لتشمل السفنَ التي تعمل بوسائلَ حديثة.
والقرآن يذكر الأنعام على أنها وسيلةُ نقلٍ رئيسة في الماضي: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، والإشارة إلى {مَا لَا تَعْلَمُونَ}، دليل على وسائل مستقبلية لم تكن ‏معروفةً في زمن الوحي.‏
فلو خاطبَ شخصٌ الناسَ في القرن التاسع عشر عن النقل، وذكَر العربات التي تجرُّها الخيول، فهذا لا يعني أنه ينفي وجودَ السيارات في المستقبل، وإنما هو في مقامِ وصفِ واقع ذلك العصر.
ثانيًا: الآيات التي تشير إلى حركة السُّفن بالرياح لا دلالة فيها على حصر الحركة بهذه الوسيلة، بل هي لتوضيح قدرة الله سبحانه في تسخير الطبيعة لخدمة الإنسان، فالقرآنُ في سياقه يُبرِز نعمة الله بتسخير الرياح على أنها جزءٌ من النظام الكوني، قال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3]. والآياتُ الكونيةُ ـ مثل الرياح التي تحرك السفن ـ ليستْ إلا نماذج للتسخير الإلهي، تمامًا كما أنَّ الرياح كانتْ مصدرَ طاقةٍ للسفن، فإنَّ الوقود الأُحفوريَّ أو الطاقة النووية اليوم هي مصادر أخرى للتسخير الإلهي، وكلُّها خاضعةٌ للقوانين الكونية نفسها التي وضعها الله سبحانه.
ثالثًا: القرآن أشار ضمنيًّا إلى أن التطور العلمي والتكنولوجي على أنه جزءٌ من السُّنن الإلهية التي تحكُم الكون، فإنَّ الله سبحانه خلق للإنسان القدرةَ على الاستفادة من الموارد الطبيعية وتسخيرها بطرقٍ جديدة ومبتكرة مع مرور الزمن، دلّ على ذلك قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]. فهذه الآية تشير بوضوحٍ إلى أنَّ هناك وسائلَ وابتكاراتٍ لم تكن معروفة للبشرية في ذلك الوقت، وستظهر في المستقبل، فقديمًا كانت العجلاتُ التي يجرُّها الإنسانُ أو الحيوانات هي وسيلةَ النقل الوحيدة، ولاحقًا تطوَّرت إلى العربات التي تعمل بالبخار، ثم المحرِّكات التي تعمل بالوقود الأُحفوري، والآن السيارات الكهربائية، فهذا التطور يعكس التسخير الإلهي المستمر.
رابعًا: أنّ القرآن الكريم، عندما يشير إلى وسائل النقل أو التقنيات المستخدمة في حياة الإنسان، فإنه لا يتناول التفاصيل التقنية لهذه الوسائل (مثل كيفيّة عمل السفن أو الطائرات أو أيّ اختراع آخر)، وإنما يركِّز على جوهر الفكرة، وهو أنّ جميع هذه الوسائل تعمل على وفْق قوانين الطبيعة التي وضعها الله سبحانه وتعالى.
فالقرآنُ الكريم عندما يتحدَّث عن السفن التي تجري في البحر بـ”أمر الله”، فهذا يعني أنَّ السفن تعتمد في عملها على قوانين فيزيائية مثل الطفوّ وحركة الرياح (في حالة السفن الشراعية) أو الطاقة (في حالة السفن الحديثة)، سواء تغيرتِ التقنية من أشرعةٍ إلى محركات، فإنها ما زالت خاضعةً لتلك القوانين الإلهية، دلّ على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} [الجاثية:12]. فتسخيرُ البحر يشمل ‏جميعَ الوسائل التي تمكِّن الإنسان من الاستفادة منه، سواء بالأشرعة أو بالمحركات الحديثة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ المحرِّكات التي تعمل بالطاقة الحرارية أو الكهربائية تعتمد على قوانين الطاقة ‏والتحويل بين أشكالها، وهذه القوانين، مثلما تُحرّك السفن الحديثة، فهي القوانين نفسها التي تُحرّك ‏الرياح لتدفع السفن القديمة.‏
خامسًا: القرآنُ لا يقتصر على وصف الواقع فقط، بل يدعو البشرَ إلى البحث والاكتشاف وتطوير حياتهم باستخدام الموارد الطبيعية بنحوٍ أفضل يتماشى مع دعوةِ القرآن للتأمُّل في آيات الله سبحانه، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101]. فهذه الآية تحثُّ على التفكير والاكتشاف، بما في ذلك تطوير وسائل النقل واستخدامها ونحوها.. وتطور السفن من الأشرعة إلى المحرِّكات يعكس الامتثال لأمرِ الله بالتأمُّل في الكون وتسخيره لخدمة الإنسان، مع ملاحظة أنَّ الإنسان لم يخترع قوانين الطاقة، بل اكتشفها، وسخَّرها، وأنَّ التطوُّر الذي أدَّى إلى اختراع السفن التي تعمل بالمحرِّكات الحديثة لا يناقض القرآن، بل يُظهِر تحقُّق قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، وهو دليلٌ على قدرة الله في تسخير العلم للإنسان.
النتيجة المستخلصة:
الاستشكال مبنيٌّ على سوء فهْم للخطاب القرآني، حيث تفسَّر الآياتُ بنحوٍ حرفيٍّ وجامدٍ دون مراعاةٍ لشمولية النصوص القرآنية ومرونتها في مواكبة تطوُّرات الزمان. فالقرآن الكريم لم يربط حركةَ السفن حصرًا بالرياح والأشرعة، بل قدَّم ذلك مثالًا على تسخير الله تعالى للسُّنن الكونية التي يمكن أنْ تتجلى بوسائل مختلفة في العصور المتعاقبة.
الخلاصة:
التطوُّر التكنولوجي الذي أدَّى إلى تحريك السفن بالمحركات الحديثة ليس تناقضًا مع القرآن، بل هو تأكيدٌ لشموليَّته واتّساقه مع السُّنن الإلهية التي تحكم الكون. والآيات تشيرُ إلى الرياح على أنها مثالٌ لنعمةٍ مِن نِعم الله التي كانت معروفةً في زمن نزول القرآن، بينما التطوُّر الحديث يعكس امتدادَ التسخيرِ الإلهيِّ بواسطة الوسائل الجديدة.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.