مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

حديثُ “ما هممْتُ بقبيحٍ إلا مرتين من الدهر”

السائل = Liqay At Is
السؤال = ورد الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما هممْتُ بقبيحٍ مما يَهمّ به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر ، كلتاهما عصمني الله منهما .
ما صحة هذا الحديث؟ وهل فيه انتقاصٌ للنبيّ (صلى الله عليه وآله) أو عمومًا لمقام نبوّة سائر الأنبياء لو ورد بحقِّهم؟

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
ما ورد في السؤال هو مقطعٌ من حديثٍ منسوبٍ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقراءته بتمامِه يتضح ما إذا كان فيه انتقاصٌ لمقام النبيّ الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمقام الأنبياء (عليهم السلام) عمومًا، أو لا.
أولًا: الحديث أخرجه ابن حِبّان في صحيحه عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، ‏عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب، أنه ‏قال: ((سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏يقول: “ما هممْتُ بقبيحٍ مما يهمّ به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني اللهُ منهما، ‏قلت ليلةً لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنَمٍ لأهلنا نرعاها: أبصرْ لي غنمي حتى أسمر ‏هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان. قال: نعم، فخرجتُ، فلما جئتُ أدنى دارٍ من دور مكة سمعت ‏غناءً وصوت دفوف ومزامير. قلت: ما هذا؟ قالوا: فلانٌ تزوج فلانة لرجلٍ من قريش، تزوج ‏امرأةً من قريش، فلهَوتُ بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتْني عيني، فنمتُ، فما أيقظني إلا مسُّ ‏الشمس، فرجعتُ إلى صاحبي، فقال: ما فعلتَ؟ فأخبرتُه، ثم فعلتُ ليلة أخرى مثل ذلك، فخرجتُ، ‏فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فسمعت كما سمعت، حتى غلبتْني عيني، فما أيقظني إلا ‏مسُّ الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي، فقال لي: ما فعلتَ؟ فقلت: ما فعلت شيئًا”. قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: “فوالله، ما هممْتُ بعدهما بسوءٍ مما يعمله أهل الجاهلية، حتى أكرمني اللهُ ‏بنبوَّته)).‏ ‏[صحيح ابن حبان، ج4، ص12-14، ط. دار ابن حزم]. ‏
وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: ((صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرِّجاه)) ووافقه الذهبي ‏في التلخيص. [المستدرك على الصحيحين، ج4، ص245].‏
وأخرجه البيهقي في “دلائل النبوّة” من طريق محمد بن إسحاق به. [دلائل النبوة، للبيهقي، ج2، ‏ص33-34].‏
فالحديث يشير بوضوحٍ إلى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) – وحاشاه – كان يحبُّ أنْ يلهو بالغناء وصوت الدفوف والمزامير إلى الحدِّ الذي كانت تغلبه عينه، فيغفو من تأثير ذلك اللهو، والغناء كما عبَّر عنه ابن القيِّم في “إغاثة اللهفان”، هو خمرة العقل، ورُقية الزنا، ومنبت النفاق، حيث قال: ((الغناء أشد لهوًا وأعظم ضررًا من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رُقْية الزنا ومنبت النفاق وشرك الشيطان وخمرة العقل)) [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيم، ج1، ص240، تـ. الفقي].
فأي إساءةٍ أقبح من هذه حينما تُصوّر لهفة النبي الأعظم إلى حضور مجالس الغناء والطرب التي يحضرها أهل الفجور والفسوق، وهو المعصوم قبل نبوّته وبعدها، قال الزرقاني المالكي في “شرح المواهب اللدنّية”: ((إنه ‏معصوم ‏من الذنوب بعد النبوة وقبلها، كبيرها وصغيرها وعمدها وسهوها على الأصح في ‏ظاهره وباطنه، ‏سره وجهره جده ومزحه رضاه وغضبه، كيف؟ وقد أجمع الصحب على اتّباعه ‏والتأسّي به بكل ما ‏يفعله، وكذلك الانبياء، وقال السُّبْكي: “أجمعتِ الأمة على عصمة الأنبياء فيما ‏يتعلق بالتبليغ وغيره ‏من الكبائر والصغائر الخسة والخسيسة والمداومة على الصغائر، وفي ‏صغائر لا تحطُّ من رتبتهم ‏خلافٌ، ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع؛ ‏لأنا أُمرنا بالاقتداء بهم فيما ‏يصدر عنهم، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي، ومن جوَّزه لم يجوِّز بنصٍّ ‏ولا دليل”)) [شرح المواهب ‏اللدنّية في المِنح المحمدية، للزرقاني، ج5، ص314].
وقال علي القاري في “شرح الفقه الأكبر” في ذيل كلام أبي حنيفة: ((والأنبياء ‏‏عليهم ‏السلام، كلهم منزَّهون عن الصغائر والكبائر، هذه العصمة ثابتة للأنبياء قبل النبوّة وبعدها ‏على ‏الأصح)) [شرح الفقه الأكبر، للقاري، ص48-49].‏
قال الذهبي في السِّيَر في سياق حديثه عن عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((والذي لا ريب فيه أنه كان معصومًا قبل الوحي وبعده، وقبل الشرائع من ‏الزنى قطعًا، ومن الخيانة، والغدر، والكذب، والسكر، والسجود لوثنٍ، والاستقسام بالأزلام، ومن ‏الرذائل، والسفه، وبذاء اللسان، وكشف العورة، فلم يكن يطوف عريانًا، ولا كان يقف يوم عرفة مع ‏قومه بمزدلفة، بل كان يقف بعرفة)) [سير أعلام النبلاء، ج1، ص130].‏
ثانيًا: الحديث ضعَّفه علماء أهل السُّنة، منهم الشيخ ناصر الدين الألباني الذي يُعدّ أبرز علماء الحديث في عصره، وخصوصًا في علم التخريج والأسانيد والرجال، ضعّف الحديث في بعض مصنفاته. [يُنظر: ضعيف موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، للألباني، ص155].
وقال في “التعليقات الحسان”: ((ضعيف ـ “تخريج فقه السيرة”)) [التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، للألباني، ج9، ص89، ط. دار با وزير].
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: ((وهذا حديثٌ غريب جدًّا)) [البداية والنهاية، لابن كثير، ج2، ص292].
وقال أبو يعلى محمد أيمن الشبراوي السلفي محقِّق كتاب “سيَر أعلام النبلاء للذهبي”، في تعليقه على الحديث: ((منكر… قلت: كذا قال الحافظ ابن كثير، ولعل قوله هو الصواب، فمتن الحديث تمجُّه العقول والأفهام التي ما فتئت تستروِح بالنظر في دواوين السُّنة الصحيحة دون الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة التي بيَّنها العلماء، فكلُّ مَن له اطلاعٌ لا جرم أنه يشمئزُّ قلبه، ويمج عقلُه ما ورد بها. ولقد أبعد الحاكم والذهبي النجعة بتصحيحهما هذا الحديث على شرط مسلم، وهذا من تساهلهما)). [سيَر أعلام النبلاء، للذهبي، ج1، ص178، تـ. الشبراوي، ط. الحديث].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.