تفاصيل المنشور
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 28 مشاهدة
تفاصيل المنشور
تفاصيل المنشور
يتناول هذا الحوار موضوعًا ذا قيمة وأبعاد نفسيّة ودينية واجتماعية، ألا وهو الخوف والإيمان وأثرهما على السلوك الإنساني، فبينما يطرح الملحدُ وجهةَ نظرِه التي تُشير إلى أنّ تركيز الأديان على العقاب والجحيم، يُخوّف الناس بهما، ويُجبرهم على الإيمان، مما يُعدّ انتهاكًا لحقوق الإنسان، ويُؤكّد أنّ إيمانًا ينبع من الخوف لا يُعدّ إيمانًا حقيقيًّا، وأنّ الدين يُمثّل وهمًا لا أكثر.
في المقابل، يُقدِّم الموحِّد ما يُؤكّد على أنّ العقوبات ضرورية لردع الجريمة، وأنّ الخوف من الله سبحانه وتعالى علامةُ صدق الإيمان، ويُشير إلى أنّ الدين يُشجّع على السلوكيّات الإيجابية، وأنّ تحذير الله من العقاب هو رحمة؛ لحماية الإنسان من الانحراف والظلم، كما يُؤكّد على أنّ الأوامر الإلهية تُظهر حرصًا كبيرًا على حفظ حقوق الإنسان وكرامته.
انطلاق جولة الحوار:
الملحد: إنَّ صبَّ الاهتمام على الجحيم والنار والعذاب في يوم القيامة هو أحد أساليب المتديِّنين لدفع الناس للإيمان، وهذا فيه انتهاكٌ للحقوق الإنسانيّة، حيث يخوِّفهم الدينُ بالأمور التي تقال لهم عن الجحيم.
الموحد: ضعْ في علمك أنّ فلسفة العقوبات تهدف في مؤدّاها النهائيّ إلى ردع الجريمة قبل حدوثها، ومن هنا لا يمكن إدانة العقوبات الجنائية، بل الذي يجب إدانته هو الجريمة نفسها، فالحياة الإنسانيّة لا يمكن أنْ تستغني عن القوانين الرادعة للجريمة أو أي مخالفة جنائية، ومن هنا، لا يمكن أن نتصور مشروعًا دينيًّا أو سياسيًّا يستهدف بناء الإنسان أو المجتمع، وهو لا يُعنى بالعقوبات التي تضمن استمرار المشروع.
الملحد: لكنّ التركيز على العقاب والجحيم يخلق حالةً من الخوف والتهديد، فلماذا لا يستبدل بما يعزِّز القيم الإيجابية والتطلُّع للخير!!
الموحد: انظر، أنت الآن لا يخلو حالُك من أحد أمرين، إما أن تكون موظفاً بإحدى مؤسسات الدولة، أو تعمل في إحدى الشركات الخاصة، ومعلومٌ أن جميع هذه المؤسسات والشركات من دون استثناء تطبِّق سياسة العقوبات على الموظَّفين الذين يخالفون النظام، وهذه العقوبات معروفة، وهي: (لفت النظر الخطّي، الإنذار الخطّي، الخصم من الراتب الأساسي، تنزيل درجة الموظف، الفصل من الوظيفة)، فلماذا لا تستبدل هذه المؤسسات أنظمتها القائمة على العقوبات والتهديد والتخويف بأنظمة من شأنها تعزيز القيم الإيجابية والتحفيز نحو التطلُّع للخير؟!!
لا شك أنّ جواب العاقل يكون هو: أنّ تطبيق سياسة العقوبات على الموظفين الذين يخالفون النظام في المؤسسات يشجِّع على الالتزام بالإجراءات، ويحافظ على النظام والكفاءة داخل المؤسسة أو الشركة.
الملحد: ما النتيجة التي تسعى إليها؟
الموحد: النتيجة هي: أنه إذا كان استخدام التهديد والترهيب بالنار والجحيم يعدّ انتهاكًا لحقوق الإنسان، فإنّ ذلك يعني أنّ المؤسسات التي تنتهج سياسة التهديد والتخويف بالعقوبات على الموظفين تمثِّل انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان.
الملحد: أنا أتحدَّث في سياق الإيمان، وأنه نتيجة الترهيب والتخويف بالنار والجحيم، مما يجعلني أعتقد أنه ليس إيمانًا حقيقيًّا، فيكون الدين مجرَّد وهم.
الموحد: وأنا حدَّثتك على وفق اعتقادك – باعتبارك من الملحدين – المبني على أنني: (لا أؤمن إلا بما أرى، وأسمع، وألمس)، فذكرتُ لك افتراضًا واقعيًّا يتماشى مع منهجك الفكري، وهو أولى بأنْ يتّهم – بناء على طرحك – بالانتهاك لحقوق الإنسان.
وإذا كان الترهيب والتخويف بالنار والجحيم، ينتج عنه عدم وجود إيمانٍ حقيقيٍّ، وأنّ الدين مجرَّد وهم، فماذا تقول عندما يهدِّد شخصٌ مسلَّحٌ حياتَك، ويطلب اعترافَك بشيء ما، وتقوم بالاعترافِ بدافع الخوف من الموت، هل هذا معناه أنه لا يوجد خطرٌ حقيقيٌّ يهدِّد حياتك، وأن اعتقادك بالموت كان مجرَّد وهم!!
فإذا لم يكن ثمة خطرٌ حقيقيٌّ على حياتك، فلماذا تعترف؟! وبالنتيجة، يمكن القول: إنك تؤمن بوجود خطرٍ حقيقيٍّ على حياتك نتيجة الخوف، ولذلك قمتَ بالاعتراف.
إذًا، حالة الخوف إنما تنشأ من الاعتقاد والإيمان بوجود حقيقةٍ ما، فعندما يتأكَّد الاعتقادُ بوجود هذه الحقيقة، وأنّ تجاهلَها قد يؤدّي إلى عواقب خطيرة، هذا الإدراك هو الذي يولِّد حالة الخوف والحذر، ولم نرَ أو نسمع عن عاقلٍ سويٍّ يعاني من الخوف من لا شيء، بل يكون الخوف غالبًا متأتِّيًا من إدراكٍ حقيقيٍّ للمخاطر والتهديدات.
وبالمثل، ينطبق هذا على المؤمن أيضًا، حيث يتولَّد لديه الخوف من عقاب الله سبحانه وتعالى في حال عدم الامتثال لأوامره، وذلك نتيجةً للاعتقاد والإيمان بوجوده.
فالخوف من الله سبحانه وتعالى علامةُ صدقِ الإيمان، كما قال سبحانه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
والأمن من مكر الله عزّ وجل وأليم عقابه إنما هو شأن الخاسرين، كما قال سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
الملحد: ولكنْ هل لهذا الترهيب والتخوٌيف انعكاس على واقع المتديِّنين!!
الموحد: بالتأكيد، فإنّ خوف المؤمنين من عقاب الله سبحانه ـ سواء في الدنيا أو في الآخرة ـ يؤثر بنحوٍ كبير على توجيه سلوكهم نحو الأعمال الصالحة، فيحرصون على الابتعاد عن المحظورات الشرعية مثل الظلم والغشّ والكذب وغيرها، فيسعون إلى التمسُّك بالقيم الإنسانية السامية مثل العدل والرحمة والإحسان التي حثّ عليها القرآنُ الكريم، وأمر بها في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90].
فالخوف يُعدّ عاملًا بارزًا في توجيه سلوك الإنسان نحو الخير والصلاح، فهو الكفيل والضمان لتجنُّب الانحراف، حيث لا تنقمع الشهوات إلا بنار الخوف، والله عزّ ذكرُه جعل لمن يخاف مقامه جنتين، فقال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
الملحد: العقوبات الصارمة والمروِّعة التي يهدِّد الإله بها الإنسانَ لا تتناسب مع مفهوم الرحمة الإلهية؟!
الموحد: على العكس تمامًا، فإنّ تحذير الله سبحانه للإنسان بإرسال الأنبياء والرسل يعكس بالضبط معنى الرحمة بالإنسان لحمايته من المصير المظلم، فالغرض من هذا التحذير بالعذاب الصارم ليس الترويع، بل المقصود منه سلامة الإنسان ومصيره، ومن هذا المنظور، يمكننا القول: إن الذي يقوم بتحذير الإنسان من الوقوع في مصير مظلم، إنما هو في الواقع من أبرز الداعمين لحقوق الإنسان، وها هو كتاب الله سبحانه مليء بالأوامر التي تحفظ للبشريّة حقَّها، وتحرِّم الاعتداءَ عليها وأخْذَ حقوقِها بغير حق، فمن ذلك حرمة قتل النفس بغير حق، قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33].
وعن حرمة أكل مال الغير بغير الحق قال سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
وعن حرمة الطعن في العرض، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
وعن حرمة الظلم، قال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان:19].
وعن حرمة الأذى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58].
وغيرها كثيرٌ من الآيات المباركة التي تُمثّل أبرز مصاديق حفظ حقوق الإنسان التي لا تُضاهى بغيرها.
وختامًا أقول: إن تحذير الله سبحانه وتعالى من العقاب والعذاب الأبديّ، هو في الواقع يجسِّد رحمةً حقيقيةً لحماية الإنسان من الانحراف والظلم، فالأوامر الإلهية تعكس حرصًا كبيرًا على حفظ حقوق الإنسان وتعزيز كرامته، فكما يُحذّر الطبيبُ مريضه من مخاطر الطعام غير الصحّي لحمايته من المرض، فإنّ الله سبحانه – ولله المثل الأعلى – يُحذّر الإنسان من مخاطر الانحراف والظلم لحمايته من العذاب الأبديّ؛ ولذلك، يجب أن ننظر إلى تحذير الله سبحانه وتعالى على أنه علامةٌ بارزة على رحمته بنا، وليس علامةً على الترهيب والترويع، فهو الذي قال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.