مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

الحريةُ المطلقة ضربٌ من الخيال أو وهمٌ يشبه المحال

تفاصيل المنشور

الاشكال

الشريعة والإسلام يقفان بالضدِّ من حرية التعبير، ويُحدَّد على وفق قوانينها إطلاق الحريات، في حين أن المجتمعات غير الإسلامية في السابق والحاضر تتمتع بمطلق حريتها، وهي مستمرةٌ على ذلك، فأين ما قررته الشريعة الإسلامية من إعطاء الفرد حريته في التعبير قولًا وعملًا، وها هو الإسلام اليوم يكمِّم الأفواه، فيحرِّم شرب الخمر والزنا وغيرها، مع أنها من حرية الفرد الشخصية.

المستشكل

c.y.s

تفاصيل المنشور

الاشكال

الشريعة والإسلام يقفان بالضدِّ من حرية التعبير، ويُحدَّد على وفق قوانينها إطلاق الحريات، في حين أن المجتمعات غير الإسلامية في السابق والحاضر تتمتع بمطلق حريتها، وهي مستمرةٌ على ذلك، فأين ما قررته الشريعة الإسلامية من إعطاء الفرد حريته في التعبير قولًا وعملًا، وها هو الإسلام اليوم يكمِّم الأفواه، فيحرِّم شرب الخمر والزنا وغيرها، مع أنها من حرية الفرد الشخصية.

ضعْ في حسبانك أنّ الحرية حقيقةٌ إنسانيةٌ، تُفهم ضمن حدودِ فهمنا للإنسان نفسِه، فهناك فرقٌ كبير بين القول: إن الحرية مجردةٌ، وبين القول: إن الإنسان كائن حر، فالحرية المجردة التي تسبح في الفراغ، والتي لا تواجهها موانع ولا حدود، قد لا تكون موجودة حتى في عالم المجردات، والموجود هو الإنسان الحر الذي يتحرك ضمن الحدود الممكنة، وما يقع فيه بعض المندفعين نحو الحرية هو الانطلاق من المفهوم المجرَّد ليسقطه على الإنسان دون الاكتراث لوجود مساحةٍ فاصلة بين الحرية مفهومًا وبين الحرية واقعًا إنسانيًّا.

وينبغي عليك الالتفات إلى أن هناك حريةً لها خطوطٌ حمراء لا تتجاوزها، وهناك حريةٌ سلبية، وهي الحرية المطلقة، والأخيرة لا يقبل بها عاقلٌ؛ نظرًا لمساوئها الكثيرة، ولتقريب الصورة نضرب مثلًا، لنفرضْ أننا في بلدٍ يؤمن بالحرية المطلقة، فإذا شخصٌ يسبّ جاره، ويتهجم عليه بغير سبب، فإذا سئل عن سبب الاعتداء أجاب: هذا ليس اعتداءً، وإنما هي حريةٌ، وأنا في بلد الحرية، وقد آن لجاري أن يعرف ما معنى الحرية، وشخصٌ آخر يسوق سيارته بسرعةٍ شديدةٍ دون أن يتوقف عند الضوء الأحمر، وقد يتسبب في حادثةٍ مروعة، فإذا سئل عن ذلك أجاب وبكل بساطة: أنا حرّ، وأنا في بلدٍ يؤمن بالحرية.

هذه هي الحرية المطلقة التي يعدّها العقلاء اعتداء سافرًا على الآخرين، وهي حرية قد تُدخل الأفراد والجماعات في دوّامةٍ من الصراعات… إلخ.

فالحرية المطلقة ليست موجودةً إلا في خيال المطالِب بها، أما في الواقع فكل الحريات مضبوطةٌ ومقيدة.

وليست هناك حريةٌ مطلقة سادتْ في المجتمعات لا في الغابر ولا في الحاضر، بل ولن تسود بينها في المستقبل، ويكذب ـ ويعلم أنه يكذب ـ من زعم أن هناك حريةً مطلقة لفرد أو مجتمع، تبيح له أن يمارس ما يراه دون مراعاة لمصالح مجتمعه وأنظمته وأعرافه وتقاليده التي ارتضاها لنفسه، فلكل حرية قيودٌ تحدد سقفها.

نعم، الحرية روح الحياة، إلا أنّ القيود هيكلُ هذه الروح وقوامها، وأول وأبرز تلك القيود هو احترام حرية الآخرين التي تتوقف عندها حرية أي فرد أو مجتمع، فالإنسان لا يكون حرًّا مطلقًا حتى مع نفسه؛ لأنه كائن له كرامة، وليس من حقه العبث بكرامته، وهو ليس حرًّا مع المحيط الذي يعيش فيه؛ لأنه ـ وبكل بساطة ـ لا يحتكر حق الوجود لنفسه دون غيره، ولا يوجد عاقل -في أي مجتمع كان- يمارس الحرية المطلقة، وهو يدعو – بصرف النظر عن معتقده أو موروثه الحضاري- إلى التحلل من كل القيود لممارسة حريته الخاصة أو حرية مجتمعه، ففي الحرية المطلقة فسادٌ ذريع، ولو ترك لكلِّ أحدٍ أن يمارس حريته المطلقة كيفما اتفق ـ ودون مراعاة لحقوق ومشاعر الآخرين ـ لقضى أقوامٌ حوائجهم الطبيعية من إخراج وتناسل وتكاثر على أبواب البيوت وعند نواصي الطرق كما تفعل البهائم، فمن ينادي بالحرية المطلقة عليه أن يوجِد لنفسه كوكبًا خاصًّا ليعيش فيه وحده.

وإذا سلمنا بما تقدم فيمكننا تفكيك الإشكال في ما يتعلق بمعارضة الأحكام الشرعية للحرية، فمثلًا قولك: (إطلاق الحريات) يوحي بأن هذه الأحكام جاءت مخالفة لطبيعة الحرية، أي أن الحرية بطبعها مطلقةٌ، فهي لا تنسجم مع أي تقييد، وبما أن حرمة الخمر والزنا تقييدٌ، فهي تخالف مفهوم الحرية المطلقة، وهذا فهم مغلوط، لأنّ الحرية لا ينظر لها بوصفها مفهومًا مجردًا، وإنما يُنظر إلى الإنسان بوصفه حرًّا، وهكذا يجب فهم الحرية ضمن الإمكانية الإنسانية، بمعنى أن الإنسان كائن محدود لا يتحرك في إطار المطلق، فهو مقيد بطبيعة الحياة وقيمها، ومقيد بطبيعة النفس وكرامتها وفلسفة وجودها، ومقيد بطبيعة المجتمع والعيش المشترك.. وهكذا يصبح الإنسان الحر كائنًا مقيدًا بطبيعته، أما الحرية الخارجة عن حدود الإنسان فنحن لا نعرفها ولا يمكن تصورها.

والمحصلة أن الحرية صفة للإنسان، وعليه يجب فهمها في إطار فلسفة وجوده، وبما أن الإنسان مخلوق له غاية فلابد أن تكون خياراته محكومة بهذه الغاية، ومن هنا يصعب على المدارس المادية فهم تلك التشريعات؛ لأن تلك المدارس لا ترى للإنسان قيمة إلا في حدود شهواته وغرائزه.

أما حرية التعبير فهي مكفولةٌ في الشريعة الإسلامية بشرط ألا تتحول إلى معول هدم للعيش المشترك، مثل أن توظف حرية التعبير لتصفية الخصوم على نحوٍ غير أخلاقي، أو للتجاوز على حرية التعبير عند الآخرين، وعليه يجب أن يتساوى هذا الحق بين الجميع، ولكي يتحقق ذلك لا بد أن تكون في إطار الحقوق والواجبات.