مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

الإيمانُ بالله بنيانُه العقل وقوامُه الخوف

تفاصيل المنشور

الاشكال

إذا كان للإله وجودٌ حقيقيٌّ، فسيكون لديه احترامٌ أكبر من قِبَل الأفراد الذين يستخدمون عقولهم بدلًا من اتباع دينٍ نابع من الخوف وحده.

المستشكل

لم يصرح باسمه

تفاصيل المنشور

الاشكال

إذا كان للإله وجودٌ حقيقيٌّ، فسيكون لديه احترامٌ أكبر من قِبَل الأفراد الذين يستخدمون عقولهم بدلًا من اتباع دينٍ نابع من الخوف وحده.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..
هذا الملحد يقدِّم تناقضًا فريدًا في محتواه، ويُثير الضحكَ بمَرماه؛ ذلك لأن أُسّ أساس الإلحاد قائمٌ على إنكار وجود الله. ومع ذلك، نجده قد استخدم وجود الله على أنه افتراضٌ في سياق كلامه، حيث يُشير إلى أنه إذا افترضنا وجود الله، فإنّ الله سيحترم العاقل الذي لا يؤمن بوجوده أكثر من المؤمن به نتيجة للخوف من عقوبته. فهذا التناقض يجعل كلامه غير منطقيٍّ، فيمكن تصنيفه على أنه مغالطةٌ في المنطق.
وعلى رغم ذلك، يمكن الرد عليه بالآتي:
إذا كنا نريد أنْ نقارن بين المؤمن والملحد من حيث العقل والتفكير المنطقي، فإننا بالضرورة نجد أن المؤمن يُظهر مزيدًا من الالتزام بالمنهج العقلي مقارنةً بالملحد. لاعتقاد الملحد أنّ العالَم نشأ من دون وجود خالقٍ، وأن الحياة نشأت من اللاحياة، ويؤمن بمفاهيم أخرى تتعارض مع التفكير المنطقي. ولهذا السبب، يُعد الشخص العاقل هو من يُعبِّر عن قلقه إزاء مصيره القادم، ويسعى بجدِّيةٍ للوصول إلى مأمنٍ يضمنه. هذا من جانب.
ومن جانبٍ آخر، إذا كان الخوف هو العامل الأساسُ الذي أدى إلى نشوء الدين، فيلزم أن يكون الدين ‏مرتبطًا ‏بوجود ‏الخوف، وعندما يتلاشى الخوف، فلا بدّ أن يتلاشى معه الدين أيضًا. وعلى هذا ‏الاعتقاد، ‏يلزم أيضًا أنْ نشهد ‏زيادة في الإلحاد كلما تضاءل الخوف والقلق، وفي المقابل نشهد زيادةً في الإيمان ‏كلما ‏زاد الخوف ‏والقلق. ولكن الواقع هو أننا نرى زيادةً في التديُّن بين الأشخاص الذين ‏يشعرون ‏بالأمان ‏والطمأنينة، مثل الأنبياء والأولياء. بينما نجد الملحدين هم الذين يعانون من ‏الخوف ‏والقلق ‏الوجوديّ.‏
يقول عالم النفس السويسري كارل يونج: ((انعدام الشعور الديني يسبِّب كثيرًا من مشاعر القلق ‏والخوف من المستقبل والشعور بعدم الأمان والنزوع نحو النزعات المادية البحتة، كما يؤدي إلى ‏فقدان الشعور بمعنى ومغزى هذه الحياة، ويؤدي ذلك إلى الشعور بالضياع)) [دراسات في تفسير ‏السلوك الإنساني، للدكتور عبد الرحمن العيسوي، ص١٩٣، دار الراتب الجامعية، بيروت، ‏‏١٤١٩هـ].‏
هذا مضافًا إلى أنّ الخوف من النتائج السلبية أو العواقب يمكن أن يكون عاملًا تحفيزيًّا للأشخاص لاتخاذ إجراءات ‏معقولة لحماية مصالحهم الشخصية والمنافع الخاصة بهم، ومن المؤكد أن الخوف يحفِّز على القيام ‏بأفعالٍ تُعدُّ منطقيةً ومستنيرة لتجنُّب المشاكل والمخاطر المحتملة، مما يجعله علامة على رزانة عقل الفرد في أغلب الحالات. الأمر الذي يتعلق ‏بالقدرة على تقدير المخاطر واتخاذ الإجراءات الملائمة استنادًا إلى الوعي والتفكير السليم.‏
وفي الواقع الاجتماعي، يمكن تمثيل الخوف على أنه مؤشرٌ على وجود العقل والتعقُّل في كثيرٍ من الحالات. ‏فعلى سبيل المثال، الشخص الذي يخشى من التصادم المروري يقدِّر مخاطر القيادة بحذرٍ، ويتخذ ‏إجراءاتٍ احترازيةً، مما يعكس تفكيرًا عقلانيًّا. ومثل ذلك، عندما يكون هناك خوفٌ من الإصابة ‏بالأمراض، فيمكن أنْ يحفِّز هذا الخوفُ الأشخاصَ على اتخاذ إجراءاتٍ وقائية مثل الحفاظ على نمط ‏حياةٍ صحيٍّ وزيارة الأطباء بانتظام، وهذا يعكس أيضًا تفكيرًا عقلانيًّا. وفي حالة الخوف من ‏العواقب القانونية أو الخُلُقية لأفعال غير ملائمة، فإنه يُحتّم على الفرد والمجتمع اتخاذ قراراتِ تفكيرٍ أكثر عقلانية، ‏ويسهم في الامتناع عن السلوكيات غير الملائمة.‏
وعليه، فلا يتعارض الإيمان بالله مع الخوف، بل يمكن للإنسان أن يؤمن بالله بوساطة المنهج العقليّ، وفي ‏الوقت نفسه يخاف من عقوبته. بل على العكس، يمكن أن يكون الخوف هو الحافز الذي يحفِّز ‏الإنسان على التفكير والبحث عن الحقيقة، وذلك بهدف النجاة من العقاب المحتمل، وهذا المفهوم يُعرف في ‏علم الكلام بـ “قاعدة دفع الضرر المحتمل”، بمعنى أنه إذا كنّا نتوقَّع وجود أذىً محتمل، فإن هذا بلا شكٍّ يحفِّزنا على البحث والتحقيق للتصرف بحيث نتجنَّب هذا الأذى المحتمل.
وفي حياتنا اليومية، يُظهر الخوف من احتمال وقوع الضرر قيمةً كبيرة في توجيه سلوكنا واتخاذ إجراءات وقائية بإزائه. فإذا كان الشخص يَحتمل وقوعَ ضررٍ ما عليه، فإن هذا الاحتمال يحفِّزه على اتخاذ إجراءات للحماية والوقاية.
فمثلًا: في مجال التأمين، نجد أنّ أغلب الأفراد يشترون وثائقَ تأمينٍ لحماية أنفسهم وممتلكاتهم من الأحداث المحتملة مثل الحوادث المرورية أو الأمراض. ونجدهم عند ممارسة أنشطةٍ خطرة مثل رياضة التسلُّق أو الغوص، يتخذون إجراءات أمانٍ إضافية، ويحملون معهم معدات واقية احتياطية تحسُّبًا لوقوع حوادث. وفي مجال التخطيط المالي، نجد المختصين يقومون بإعداد خططٍ مالية لتوفير واستثمار الأموال بحيث يمكنهم التعامل مع أي ضررٍ ماليٍّ محتمل في المستقبل.. إلى غير ذلك من العشرات من الأمثلة التي تُظهر كيف يمكن للاحتمال بوقوع ضرر أن يؤدي إلى اتخاذ إجراءات وتدابير للوقاية والحماية في مختلف جوانب الحياة.
والنتيجة أنّ الإيمان بالله سبحانه بُنيانُه العقلُ وقوامُه الخوف، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.