تفاصيل المنشور
- المستشكل - سلامة عبد الرحيم
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 26 مشاهدة
تفاصيل المنشور
الرافضة يستدلون بقوله تعالى {لا ينال عهدي الظالمين}، ليدَّعوا أنّ الإمامة لا ينالها الظالمون. ويعتقدون أن هذه الآية تشير إلى الإمامة، وتُعدّ دليلًا على بطلان خلافة الخلفاء الراشدين. وأن الإمامة كالنبوة، بل يعتقدون أنها موازية لها!! إن هذا الاعتقاد الفاسد يدفعهم لإثبات أن الإمامة موجودة في القرآن، وأنها بالجعل من الله. وهذا الزعم باطل وغير صحيح، حيث لا يوجد إشارة واضحة للإمامة في القرآن، ولا يتضمن تفصيلًا واضحًا لها في آياته.
المستشكل
سلامة عبد الرحيم
الرافضة يستدلون بقوله تعالى {لا ينال عهدي الظالمين}، ليدَّعوا أنّ الإمامة لا ينالها الظالمون. ويعتقدون أن هذه الآية تشير إلى الإمامة، وتُعدّ دليلًا على بطلان خلافة الخلفاء الراشدين. وأن الإمامة كالنبوة، بل يعتقدون أنها موازية لها!! إن هذا الاعتقاد الفاسد يدفعهم لإثبات أن الإمامة موجودة في القرآن، وأنها بالجعل من الله. وهذا الزعم باطل وغير صحيح، حيث لا يوجد إشارة واضحة للإمامة في القرآن، ولا يتضمن تفصيلًا واضحًا لها في آياته.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..
سنركز في جوابنا بنحو رئيس على الآية {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} التي طُرحتْ في ضمن الاستشكال، ونتناول ما يتعلق بها من قرائن متصلة أو منفصلة، لنصل إلى المطلوب، وبناء على ذلك يمكننا القول ردًّا على المزاعم المطروحة في الاستشكال:
إن الآيات القرآنية تؤكد وجود الإمامة بنفس الطريقة التي تؤكد فيها وجود الصلاة والصوم والحج والزكاة في القرآن. فعلى النحو الذي لم نعرف فيه تفاصيل هذه العبادات إلا بواسطة تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، نعرف أيضًا تفاصيل الإمامة من تعاليمه، ويعني هذا: أن القرآن عندما يشير إلى وجود الإمامة بنحوٍ عام، فإن وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تكمن في توضيح مصاديق هذه الإمامة، وتحديد الأئمة الذين يتولون هذا المنصب الإلهي، هذا ما أشار إليه القرآن الكريم بوضوح، حيث قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
فهذه الآية تكشف عن استمرار الإمامة في ذرية إبراهيم (عليه السلام) حتى يوم القيامة. وما يُثبِت استمرارَها هو محل الشمول في كلمة “ذُرِّيَّتِي”، والإطلاق الأزماني، فهي لم تقيَّد بزمانٍ دون آخر، ولم يأتِ من خارج النص ما يقيدها. وهذا يعني استمرار الشمول والإطلاق فيها على وفق علم الأصول.
وقوله تعالى لخليله إبراهيم (عليه السلام): {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، يُشير بوضوح ـ دون مجالٍ للشك ـ إلى أن الله تعالى أضاف الإمامة إلى نفسه، وجعلها من عهوده، وما كان من عهد الله لا يجوز للناس الخيرة فيه نفيًا وإثباتًا، وهذا يعني أن الإمامة كالنبوة من الوظائف الدينية، وما كان كذلك فليس أمره لغير الله سبحانه، وإن الناس مهما كثروا فإنهم تابعون لتصرف الشارع بهم، فلا تصرف لهم في أنفس غيرهم من الناس، ولا في أقل مهم من مهماتهم، فلا يسوغ لهم أن يجعلوا الآخرين متصرفين في نفوس العالم بأسره كما قال تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِله} [آل عمران:154].
فالإمامة من أبرز الأمور، وعليها تبتني مصالح الناس الدينية والدنيوية، فليس لهم فيها شيء من نصب ورفع.
ولا شك في أن اختيار الناس للإمام هو من التقديم بين يدي الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي ورد النهي عنه في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
ولا شك – أيضًا – في أن اتباع من يختاره الناس إمامًا، هو اتباع أولياء من دون الله ، وقد نهى الله تعالى عنه، وحرّمه في صريح قوله عزّ من قائل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الاعراف:3].
وإثبات الاختيار لله سبحانه ونفيه عن الناس مطلقًا مما نص عليه القرآن في قوله عزّ وجلّ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فهذه الآية تؤكد على أنه ليس للناس ـ كل الناس ـ الاختيار في إثبات شيء أو نفيه، وإنما ذلك كله لله تعالى وحده لا شريك له في ذلك من أحد من العالمين أجمعين وعلى الناس اتباع ما يثبته، ويختاره هو تعالى أو ينفيه. [يُنظر: عقيدة المسلم، للقزويني، ص69-70].
وبالإضافة إلى ذلك، فقد أخبرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الإمامة ستستمر في أمته في اثني عشر خليفة أو إمامًا، يكونون من بعده إلى يوم القيامة، كلهم من قريش، فقد جاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ((لا يزال الدين قائمًا حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش)) [صحيح مسلم، ج6، ص4، كتاب الإمارة عن جابر بن سمرة].
وأخبرنا (صلى الله عليه وآله وسلم) – أيضًا – أنّ عترته والقرآن هما خليفتان من بعده، يستمر وجودهما وتلازمهما حتى يوم القيامة، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين الأرض والسماء، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض)) [صحيح الجامع الصغير بتصحيح، الألباني، حديث رقم:2457]، وجاء أيضًا: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونّي فيهما)) [صحيح سنن الترمذي، برقم: 3788]، ووردت في هذا الصدد من الأحاديث الكثيرة المتضافرة في لزوم الأخذ والاتباع والتمسك بالثقلين “الكتاب والعترة” معًا ما يكاد المنصف أن يقول بتواترها، بل هي متواترة فعلًا، لتضافر نقلها عند جميع الفرق الإسلامية على اختلاف مشاربهم العقَدية والفقهية.
ومن الجمع بين الأحاديث، علمنا أن الإمامة الإبراهيمية المشار إليها في الآية الكريمة تتجسد في الأئمة الاثني عشر من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأنهم من ذرية إبراهيم (عليه السلام) الصالحين قطعًا.
وأما عظمة منزلة الإمامة عند الله عز وجل، فذلك يتجلى في جعل إبراهيم (عليه السلام) إمامًا بعد أن أوتي منزلة النبوة والرسالة والخِلة. والسر وراء ذلك يكمن في أن النبوة والرسالة تعني التبليغ وإيصال الرسالة الإلهية إلى الناس، في حين أن الإمامة تعني القيادة والوصول بالناس إلى المطلوب من الرسالة. وهذه وظيفة عظيمة ومنزلة مرموقة.
ويمكننا التأكيد على وجود الإمامة الإلهية ومنزلتها العظيمة من آيات القرآن الكريم نفسها. فقد قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (الأنبياء: 73). فمن هذه الآية يتضح أن الإمامة المجعولة إلهيًّا تشتمل على مرحلة الهداية. ومن المعروف أن الهداية تتضمن نوعين: إرشاد إلى الطريق والوصول إلى المطلوب. وبما أن النبوة والرسالة قد تولتا النوع الأول من الهداية، فإن الإمامة تختص بالنوع الثاني، وهو الوصول إلى المطلوب. والنتيجة أن الإمامة تتجاوز مرحلة النبوة والرسالة.
فإن وظيفة النبوة تشمل تلقّي الوحي دون التبليغ، ووظيفة الرسالة تشمل التلقي والتبليغ معًا. أما الإمامة، التي تعني الوصول إلى المطلوب، فتتعامل مع تطبيق شرع الله في الأرض. وهذا المعنى أوسع من مجرد تلقي الوحي والتبليغ، فإنه يشمل آليات متعددة، من نحو تنفيذ الحدود وتطبيق الأحكام، وتحقيق العدالة الاجتماعية وإقامتها، وتربية الأفراد وتنمية الجانب الروحي للمحافظة على روح الدين في نفوسهم.
فالإمامة في عقيدتنا تعدّ جعلًا إلهيًّا يمنحها الله لمن يشاء من عباده، ولا تُحدد بالشورى أو التنصيب من قِبَل الناس أو الغلبة بالسيف. وحالة الإمامة في الجعل تشبه حالة النبوة.
فإنْ قلت: هذا النص خاص بإبراهيم (عليه السلام) ؟
الجواب: قد نصّ سبحانه على جعل أنبياء غير إبراهيم (عليه السلام) أئمة كذلك، قال تعالى في: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73].
وقد تقول أيضًا: هذا الجعل الإلهي للإمامة هو خاص بالأنبياء فقط!
الجواب: لقد ورد الدليل القرآني في جعل غير الأنبياء أئمة كذلك، وذلك من نحو قوله تعالى في: {وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وقد نص المفسرون – الطبري وغيره – على أن المراد بالذين استضعفوا هم بنو إسرائيل ، والمراد بجعلهم أئمة، أي جعلهم ولاةً للأمر. [ينظر: تفسير الطبري، ج19، ص517-518].
فهذه النصوص القرآنية تُثبت بنحوٍ واضح وصريح على أن الإمامة وولاية الأمر هي جعل من الله، وليس للناس حق التنصيب أو الاختيار فيها، ولا يوجد نٌّ قرآني أو حديث نبويٌّ واحدٌ متفَقٌ على صحته عند الفرق الإسلامية في جعل الإمامة أو الخلافة بالاختيار أو الشورى أبدًا.
وقد تشكِل، وتقول: هذا الجعل للإمامة لا اختصاص فيه لأئمة الهدى؛ لأنه سبحانه أيضًا جعل أئمة الكفر والضلال كذلك كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41].
الجواب: هذا الجعل يعود إلى علمه سبحانه السابق بخلقه، فكما علم سبحانه من أئمة الهدى طاعتهم له، فجعلهم أئمة وقادة لعباده المؤمنين، كذلك علم من أئمة الكفر والضلال مخالفتهم ومعصيتهم له، فجعلهم قادة ودعاة إلى النار، وطريقة الجعل في الموردين لا تسلب الاختيار للطرفين – أئمة الهدى وأئمة الضلال – بل الطرفان يعطيان من الطبيعة البشرية القائمة على الشهوات والغرائز كما يعطى أي إنسان آخر، وإنما الفرق هو في التوفيق وعدمه، فإمام الهدى يعطى توفيقًا من الله، يجعله دائم الطاعة له سبحانه، وإمام الضلال يُسلب هذا التوفيق منه، ويُخلى بينه وبين الكفر والمعاصي، فيختارها بإرادته.
وقد تقول: هذه الآية لا تشمل عليًّا وأهل بيته؛ لأنها مختصة بإبراهيم وذريته؟!
الجواب: شمول هذه الآية لعلي (عليه السلام) وأهل بيته واضح؛ لأنهم من ذرية إبراهيم (عليه السلام)، والآية الكريمة لم تقيد بالذرية القريبة أو البعيدة، فتشمل بإطلاقها عليًّا (عليه السلام) والأئمة من ذريته (عليهم السلام)، دل على ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28]، فهذه الآية تؤكد على أن الله جعل كلمة الهداية ثابتة في عقب إبراهيم (عليه السلام) وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمحمد وآل محمد هم من عقب إبراهيم وذريته (عليهم السلام) بلا منازع، فقد روى الطبري في تفسيره، قال: ((حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي (في عقبه) قال: في عقب إبراهيم آل محمد صلى الله عليه وسلم)) [تفسير الطبري، ج21، ص590؛ تفسير القرطبي، ج16، ص77].
إذن، الإمامة منصبٌ إلهي أمره بيد الله سبحانه، وليس بيد البشر، فكما أن النبوة هي تشريع من الله، فكذلك الإمامة، فهي على قدم المساواة مع النبوة في هذا الصدد، والآية التي طُرحت ضمن الاستشكال تشمل بعمومها وإطلاقها إمامة أهل البيت (عليهم السلام) وعصمتهم.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.