المستشكل = البغدادي
الاستشكال = إذا كنتَ مسجونًا استغثْ بالكاظمِ يُطلقْ سراحك فورًا أو بعد حين، والكاظم كان مسجوناً، ومات في السجن، ولم ينفع نفسه حيًّا، وينفع الشيعيَّ ميْتًا، والاستغاثة به ميْتًا فيها طلبُ ما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا هو الشرك الذي نتحدَّث عنه!!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
لا بدّ لنا قبل الإجابة عن الاستشكال من الإشارة إلى مسألةٍ بارزة تظهر لنا بعرض بعض آيات الكتاب العزيز؛ لتكون الأساس الذي يُبنى عليه الجواب.
يقول الله تعالى شأنه في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]، مع أنّه سبحانه يحصر النصر بذاته جلّ وعلا، بقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، فإنه لا ريب في عدم حاجةِ القادر المتعال إلى نصرة أحدٍ؛ فإنه تعالى بوجوب وجوده غنيٌّ بالذات، والخلق محتاجون إليه كما قال جلّ شأنه: {وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38].
فهذه الآية وأمثالها تكشف لنا عن أصلٍ رصين تدور عليه رحى الحياة، وهو مشروعيّة التمسّك بالأسباب الطبيعيّة، وطلب النصر من الناس والاستغاثة بهم مشروطٌ باعتقاد الطالب والمُستغيث أنّها أسبابٌ ووسائل غير أصيلة، قائمة بالله سبحانه، نافذة بإذنه ومشيئته.
وقد توهَّم المستشكلُ أو تعمَّد إيهامَ القرّاء أن المستغاث به – سواء كان الإمام الكاظم أو غيره من الأئمة الهداة (عليهم السلام) – يُغيث الناس على نحو الاستقلال، أي لا بحولِ الله وقوته ومشيئته، لذلك قال: «… لم ينفع نفسه حيًّا، وينفع الشيعيّ ميْتًا»، في حين أنه لم يدّعِ هذا أحدٌ من المسلمين، والعقيدة بالأئمة (عليهم السلام) أن الاستغاثة بهم لا على نحو الاستقلال، بل هي بحول الله وقوته وبإرادته ومشيَّته، سواء كان الإمام المستغاث به حيًّا أو ميْتًا.
فالاستغاثة بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) لا تعدو أن تكون توسُّلًا بهم إلى المولى سبحانه، واتخاذهم وسائل إلى إنجاح طلباتهم عنده سبحانه؛ لقربهم منه، ومكانتهم عنده؛ لأنهم عبادٌ مكرَمون، لا لأنّ لذواتهم دخلًا في إنجاح المقاصد أولًا وبالذات، وإنما هم حلقات الوصل بين الناس وبين الله جلّ وعلا.
فإنّ المتوسِّل والمستغيث بالإِمام، يعتقد جازمًا بأنّه لا يملك شيئًا من نفسه، بل هو يطلبه من الله سبحانه بوسيلته، أو أنّه يستشفع، أو يستغيث به إليه تعالى جلّتْ قدرته.
فالإمام المعصوم (عليه السلام) ـ بل وجميع الأنبياء والملائكة ـ لا ينفعون أنفسهم ولا غيرهم بالذات والاستقلال، فمالِكُ جميع القوى والقدرات وذو الاختيار المستقل – وبالذات – في عالم الوجود هو الله عزّ وجلّ ليس غير، وهم (عليهم السلام) يكتسبون منه القدرة، ويستمدّون منه القوّة، فقدرتهم ونفع أنفسهم وإنفاع غيرهم إنما هي به جلّ شأنه، لا بالذات والاستقلال، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. وهذا أمر في غاية الوضوح، لا يحتاج إلى مزيد بيان.
إذاً، المستشكل في طرحه صوَّر قدرة نفع الإمام (عليه السلام) لنفسه ولمن استغاث به، بالقدرة المستقلة عن قدرة الله سبحانه، فخرج بنتيجة مبتنية على مقدّمات فاسدة مؤدّاها: (الكاظم كان مسجونًا، ومات في السجن، ولم ينفع نفسه حيًّا، وينفع الشيعي ميتًا!!).
ولا يقال: إن الاستغاثة بالإمام (عليه السلام) بعد موته فيها طلب ما لا يقدر عليه إلا الله، فتكون شركًا؛ لأنه يلزم على ذلك أنّ كل طلبٍ مِن المخلوق فهو شركٌ، وهذا مخالف لِمَا عُلِم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن المخلوق -حيًّا كان أم ميتًا، حاضرًا أم غائبًا- لا يقدر على فعل شيءٍ أصلًا إلا بإقدارِ الله جلّ وعلا؛ سواء أ كان ذلك الفعل مقدورًا عليه في الأحوال العادية أم من خوارق العادات، وإنما الشرك في إثبات قدرةٍ ذاتيةٍ للمخلوق مستقلة عن قدرة الخالق سبحانه؛ حيًّا كان المخلوق أم ميْتًا.
وحينئذٍ فمدار صحة طلب الغوث من الإمام (عليه السلام) – بعد كون ذلك على جهة التسبُّب لا الخلق والإيجاد الذاتيَّين- إنما هو الاعتقاد بإقدار الله تعالى للإمام (عليه السلام) على الإغاثة، وإن كان الغوث من خوارق العادات، فهو من الممكنات، ولا محال فيه عقلًا ولا شرعًا، فلا علاقة حينئذ للاستغاثة بالشرك من قريبٍ ولا بعيد.
ونختم تفنيد الإشكال بشهادة الإمام الشافعيّ ـ ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السُّنة، وصاحب المذهب الشافعي ـ على أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) مجرَّب بالإجابة، مغيث للمستغيثين به إلى الله تعالى.
قال الشيخ كمال الدين الدميري في “حياة الحيوان”: ((وتوفي موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث، وقيل: سنة سبع وثمانين ومائة ببغداد مسمومًا، وقيل: إنه توفي في الحبس، وكان الشافعي يقول: “قبر موسى الكاظم الترياق المجرَّب”)) [حياة الحيوان الكبرى، ج1، ج189].
وقال الغزالي: ((وقد جربتُ الإجابة عند قبور كثيرٍ من أهل الخير حتى قال الشافعي: قبر موسى الكاظم الترياق المجرَّب)) [شرح زروق على متن الرسالة، لشهاب الدين الفاسي، ج1، ص434].
وقال عبد الحقّ الدهلوي: ((قال الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه: قبر موسى الكاظم ترياقٌ مجرَّب لإجابة الدعاء، وقال حجة الإسلام محمد الغزالي: كل من يُستمدُّ به في حياته يُستمد به بعد وفاته)) [لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح، للدهلوي، ج4، ص215].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.