مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

اعتراض النبي موسى (ع) على ما قام به الخضر لم يكن سببه النسيان بالمعنى المتبادر

السائل = أبو مريم – العراق.

السؤال = قال تعالى في قصة الخضر: {لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من امري عسرا} وحسب رأي الامامية انّ الأنبياء معصومون من النسيان علما ان النبي موسى كررها ثلاث مرات وظاهر الآية ان النبي موسى يعترف بنسيانه من سياق الآية.

الجواب:

الأخ أبو مريم المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أولاً: النسيان مشترك لفظي.

الاشتراك في الألفاظ قد يكون معنويًّا، وقد يكون لفظياً، والمعنوي هو الذي تشترك أفراده في معنى واحد، وإن اختلفت في الخصوصيات، مثل كلمة: (انسان)، وأما اللفظي فهو الذي لا اشتراك بين أفراده إلا في اللفظ فقط، مثل كلمة (العين)، وبلحاظه يكون النسيان مشترك لفظي.

فلفظ “النسيان” يطلق في اللغة على أحد معنيين، فتارة يطلق ويراد به ما يقابل التذكر، وأخرى على ترك الشيء، وبحسب علماء اللغة ان أصل النسيان الترك، وأنّ لفظ النسيان هو مشترك لفظي بين ترك الشيء عن ذهول وغفلة، والثاني ترك عن عمد وقصد، وهذا استعراض سريع لما نصت عليه أقوالهم:

قال ابن فارس في المقاييس: «(نسي) النون والسين والياء أصلان صحيحان: يدل أحدهما على إغفال الشيء، والثاني على ترك شيء». [مقاييس اللغة لابن فارس، ج5، ص421]

وقال ابن الأثير في النهاية: «أن أصل النسيان الترك». [النهاية في غريب الحديث والأثر، ج5، ص50]

وقال الرازي في الصحاح: «(النسيان) الترك قال الله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] وقال: {ولا تنسوا الفضل بينكم}» [البقرة: 237]. [مختار الصحاح، ص310].

وقال ابن منظور في لسان العرب: «وقوله عز وجل: نسوا الله فنسيهم، قال ثعلب: لا ينسى الله عز وجل، إنما معناه تركوا الله فتركهم، فلما كان النسيان ضربا من الترك وضعه موضعه، وفي التهذيب: أي تركوا أمر الله فتركهم من رحمته. وقوله تعالى: فنسيتها وكذلك اليوم تنسى؛ أي تركتها فكذلك تترك في النار. ورجل نسيان، بفتح النون: كثير النسيان للشيء. وقوله عز وجل: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي؛ معناه أيضا ترك لأن الناسي لا يؤاخذ بنسيانه، والأول أقيس. والنسيان: الترك. وقوله عز وجل: ما ننسخ من آية أو ننسها؛ أي نأمركم بتركها. يقال: أنسيته أي أمرت بتركه. ونسيته: تركته. وقال الفراء: عامة القراء يجعلون قوله أو ننساها من النسيان، والنسيان هاهنا على وجهين: أحدهما الترك نتركها فلا ننسخها كما قال عز وجل: نسوا الله فنسيهم؛ يريد تركوه فتركهم، وقال تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم؛ والوجه الآخر من النسيان الذي ينسى كما قال تعالى: واذكر ربك إذا نسيت». [لسان العرب، ج15، ص324]

وقال الفيومي في المصباح المنير: «نسيت الشيء أنساه نسيانا مشترك بين معنيين أحدهما ترك الشيء على ذهول وغفلة وذلك خلاف الذكر له والثاني الترك على تعمد وعليه {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة: 237] أي لا تقصدوا الترك والإهمال ويتعدى بالهمزة والتضعيف ونسيت ركعة أهملتها ذهولا ورجل نسيان وزان سكران كثير الغفلة». [المصباح المنير، ج2، ص604]

وقال الزبيدي في التاج: «ثم إن تفسير! النسيان بضد الحفظ والذكر هو الذي في الصحاح وغيره. قال شيخنا: وهو لا يخلو عن تأمل، وأكثر أهل اللغة فسروه بالترك وهو المشهور عندهم». [تاج العروس، ج20، ص240].

وقال ابن عبد البر: “والنسيان في لسان العرب يكون التركَ عمداً، ويكون ضدَ الذكر”. [الاستذكار، ابن عبد البر، ج١، ص ٧٦].

ومن خلال ما تقدم يتضح أن النسيان في اللغة يأتي بمعنيين:

1 – أن النسيان بمعنى الترك.

2 – أن النسيان ضد الحفظ والذكر.

فالنسيان إذن على وجهين: نسيان ترك، ونسيان سهو وغفلة، وهذا يعني أن الناسي لأمر ما لا يلزم أن يكون غافلاً عما نساه، بل قد يكون تاركاً إياه عن عمد وقصد.

ثانياً: الاستهداء بالقرائنِ على تحديد المعنى المقصود من المشترك اللفظي.

ان لفظ النسيان مشترك لفظي كما أثبته علماء اللغة، والمشترك اللفظي يُحدد بالقرائن، فالنسيان في قوله {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف:73]، مشترك لفظي بين الترك والسهو- كما اتضح في أولاً – ولا يتعين أحد المعنيين الا عبر النظر إلى ما تقدم اللفظة أو الآية والى ما تأخر عنها.

فلابد إذن من الالتفات إلى السياق بملاحظة الآيات المتقدمة على الآية – محل البحث – والآيات اللاحقة لها، فهي من تحدد ما إذا كان نسيان الكليم موسى عليه السلام نسيان ترك أو نسيان سهو وغفلة، ونحن نذكر فيما يأتي عدة قرائن محددة لمعنى النسيان في سياق القصة:

1 – أن موضوع اتباع موسى عليه السلام، للعالم الرباني غايته التعلم مما عُلّمَ رشدا، وهو علم الباطن المتواري خلف ظواهر الأفعال والأقوال، وإذا لاحظنا الآيات نجد أنّ موسى عليه السلام لم يتعهد أن لا ينهى كما يعتقده منكرا ظاهرا، كيف وهو يرى أن من واجبه الحفاظ على أرواح الناس وأموالهم، ومن أولويات وظائفه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فاعتراضه المتكرر على ما شاهده من افعال منكرة في ظاهرها قام بها العالم (الخضر)، الأمر الذي يحتم عليه عدم السكوت إزائها، فأين محل السهو والغفلة عن عهود وشروط الاتباع؟!

2 – ان القول بان اعتذار موسى عليه السلام عن استنكاره واعتراضه على الأفعال التي قام بها الخضر – من قتله الغلام وخرقه السفينة لإغراقها واغراق أهلها – انما كان بسبب غفلته وسهوه عن عهوده وشروطه، يلزم منه أن لا يعترض ولا يُنكر هذه الأفعال فيما لو كان ذاكرا غير غافل، وإلا لَمَا اعتذر، وهذا اشد قدحا في عصمة ونبوة الكليم موسى عليه السلام، كونه لا يعلم ان قتل الغلام كان بأمر من الله تعالى، ولا يعلم ان خرق السفينة كان بأمر من الله تعالى أيضاً، وقد بين القرآن على لسان الخضر في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68]، فهل يحق لنبي كموسى عليه السلام أن يلزم جانب الصمت إزاء هذه الأفعال التي جسدت صورة الظلم والاعتداء على أرواح الناس وأموالهم بحسب الظاهر، وهنا يرد اشكال مفاده: كيف لنبي ان يسكت على ما يظهر أنه ظلم واعتداء على الأرواح والأموال وهو لا يعلم بما وراء الظاهر كما نص القرآن على ذلك. فأي وزن للوعود والشروط إذا أدت الى ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما أن السكوت على الظلم ظلم.

3 – في قوله تعالى على لسان الخضر: {قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67]، حرف (لن) يفيد النفي المؤبد، أي نفي استطاعة موسى عليه السلام على الصبر أمام ما سيشهده من مواقف وأفعال تجسد الظلم في ظاهرها، لا نفي التذكر وحفظ ما وعد به، فلا يقال الاستطاعة على الصبر الا على ما يقابلها، فافهم.

4 – قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، انما وعده الصبر مقيداً بالمشيئة، فلم يكذب إذ لم يصبر، وكذلك وعده بعدم معصية أمره ولكنه – أيضاً – قيده بالمشيئة، ولم يُخلف الوعد إذ لم ينتهي بنهيه عن السؤال، ودلالة هذه الجملة من الآية: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} تحدد بوضوح أن المراد من النسيان هو الترك، ومعلوم أن عصيان الأمر معناه ترك الاتباع والخروج عن الطاعة عن عمد وقصد.

5 – اعتراض موسى عليه السلام المتكرر على ما قام به الخضر لثلاث مرات، واعتذاره عنه لمرة واحدة، ففي الأولى لما خرق السفينة، اعترض عليه بقوله: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، فقال له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:72]، فاعتذر موسى عليه السلام عن اعتراضه بالنسيان وقال {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73]، وفي الثانية لما قتل الخضر الغلام اعترض عليه وقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، وهنا لم يعتذر موسى عليه السلام عن اعتراضه بالنسيان، وانما قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرً} [الكهف:76]، وهذه الآية تكشف بوضوح ان النسيان الذي اعتذر به في الأولى لم يكن نسيان سهو وغفلة، وانما كان نسيان ترك عن عمد وقصد، مقارعة لما كان في الظاهر ظلما، كما كشف عن ذلك اعتراضه في الثالثة وعدم اعتذاره أيضاً حتى قال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78].

ثالثاً: الدليل العقلي على عصمة الانبياء عليهم السلام مطلقاً.

معلوم أن الله عز ذكره أمر الناس باتّباع الأنبياء ولازم ذلك الأمر أن يكون كلّ قول وفعل يصدر منهم مطابقاً للواقع والحقيقة وفي جميع حالاتهم لا في التبليغ كما يدعي بعض المتعالمين، وإِلّا فلو كان من المحتمل أن يخطأ النبيّ فمن أين لنا أن نعرف أنّ ما يقوله أو يفعله هو صحيح ومطابق للواقع كي نأخذ به، أم هو خطأ ونسيان وغفلة منه؟ والمخلص من هذا الاحتمال هو حكم العقل، فالعقل يحكم بانسداد باب احتمال طرو الخطأ والغفلة والذهول على الانبياء عليهم السلام في كل اقوالهم وافعالهم وفي جميع حالاتهم.

وهذا الدليل يثبت وبقوة ان النسيان الذي اعتذر به الكليم موسى عليه السلام هو نسيان الترك لا نسيان الغفلة والذهول والسهو.

رابعاً: نسيان موسى عليه السلام نسيان ترك لا سهو ببيانات العلماء.

كلمة النسيان في قوله تعالى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}، المتعلقة بموسى عليه السلام، حملت عند أغلب علماء المسلمين على النسيان بمعنى الترك.

قال العلامة المجلسي في البحار: قال موسى: ” لا تؤاخذني بما نسيت ” أي بما تركت من أمرك. [بحار الأنوار، ج ١٣، ص ٢٨٩].

قال الطبري، وابن كثير، والسيوطي: أي بما تركت من عهدك. [تفسير الطبري، ج18، ص67، تفسير ابن كثير، ج5، ص179، الدر المنثور، ج5، ص415].

قال الماوردي: بما تركته من عهدك، قاله ابن عباس، مأخوذ من النسيان الذي هو الترك لا من النسيان الذي هو من السهو. [تفسير الماوردي، ج3، ص327]

وقال ابن الجوزي: قال ابن عباس: لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، والمعنى: لا تؤاخذني بنسياني. [زاد المسير، ج3، ص196]

وبالمعنى الذي تقدم يفسر النسيان في قوله تعالى: {لا تؤاخذني بما نسيت} بالترك، فيكون معنى الآية أي بما تركت من شرطي وعهدي لك، ويجري هذا المعنى مجرى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه:115]، أي ترك، وكذلك مجرى قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، إذ لا يتصور أن يكون نسيانه تعالى عن ذهول وغفلة، وهذا يعني أنه عن قصد وتعمد وإلتفات، ومعناه تركه تعالى لهم بالذكر والرحمة. وقوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]، أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا. [انظر: تفسير الميزان، ج ٩، ص ٣٤٧].

ولما كانت لا تصح نسبة السهو والنسيان الى الأنبياء، وجب حملها على ما ذكرنا لقيام الأدلة القطعية على أنه لا يجوز على الأنبياء السهو ولا النسيان، وليس تفسير النسيان بالترك آتٍ من فراغ كما يعتقده بعضهم.

فالنسيان فيها بمعنى الترك، والمعنى لا تؤاخذني بما تركت من تعهدي بالصبر وعدم السؤال، المفهوم من قوله تعالى {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا}، وقوله تعالى {فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}، أي لا تؤاخذني لتركي الصبر والسؤال عن الأمر أو الاعتراض عليه.

ودمتم سالمين