مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

إدمان التفكر عبادة وأصل لجميع العبادات

السائل

الشيخ طاهر السماوي

تفاصيل المنشور

السؤال

هل التّقوَى هي الباعِث على التّفكُّر أو العكس؟ وإذا كان الباعِث على تقوَى الله عزَّ وجلّ هو التّفكُّر فهل هو مُطلق التّفكُّر او التّفكُّر بِحُدودٍ قد حُدّتْ مِن قِبَل الشّريعة الغرَّاء؟ ومتى يأتي دوْر التّفكُّر؟ بعد معرِفة الله سُبحانه وتعالى أو أنّه هو الطّريق الموصِل إلى معرِفة الله عزَّ وجلّ؟

بسمه تعالى
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله المطهرين..
قبل الإجابة عن هذِه التّساؤُلات لابدَّ لنا مِنْ بيان معنى التّفكُّر لُغةً واِصطِلاحاً، ثمّ تأتي الإجابة عن ذلِك تِباعاً.
التّفكُّر لُغة: مأخوذ مِن – فكر – الّتي تدُلّ كما يقول ابن فارِس: على تردُّد القلب في الشّيْء، يُقال تفكَّر إذا رَدَّد قلبه مُعتبراً، ولفظ التّفكُّر مصدر لتفكَّر. وجاء في لِسان العرب: الفِكر والتّأمُّل وإعمال الخاطِر في الشّيْء. وقال بعض المحققين: إنّ الأصل الواحد في المادّة هو تصرّف القلب وتأمّل منه بالنظر إلى مقدّمات ودلائل ليهتدي بها إلى مجهول مطلوب. وقريب منه ما يقول السبزواري: الفكر حركة إلى المبادي ومن المبادي إلى المراد. [راجع: التحقيق في كلمات القرآن، للمصطفوي، ج9، ص126].
ومطلق التفكر كما في قوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] يراد به جولان النظر القلبي في موضوع معين مادياً كان أو معنوياً؛ ليصل إلى ما هو مطلوب له ويهتدي إليه.
ومما تقدم نُدرِك أنّ التّفكُّر عمل قلبي مُستمِرّ، مناطُه العقل؛ لقوله عزّ وجلّ: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191]، فالتفكر عمليّة تمارس بالقلب والعقل وتشترك فيها الحواس، لا تُقصد بذاتها وإنّما بِما يُحصِّلُه المرء مِنها، وهو معرفة الحقائق الباعثة على العمل والطّاعة، ولذلك فسر الشيخ الطوسي قوله تعالى: {وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] بأن هذه الآية دلالة على أن الله تعالى أراد من جميعهم التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة. [مجمع البيان، ج6، ص159].
فالتفكر مآله الطاعة والتسليم والانقياد لله رب العالمين، وإلا فلا فائدة منه.
والتفكر اصطلاحاً: هو سير الباطن من المبادئ إلى المقاصد، والمبادئ: هي آيات الآفاق والأنفس، والمقصد: هو الوصول إلى معرفة موجدها ومبدعها والعلم بقدرته القاهرة وعظمته الباهرة، ولذا ورد عليه الحث والمدح في الآيات والأخبار. [جامع السعادات، للنراقي، ج1، ص161].
فأما الآيات، فهي كقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم :8]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191].
وأما الأخبار فهي كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((التفكر حياة قلب البصير)) [وسائل الشيعة، ج6، ص171]، وقوله: ((فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا ينال منزلة التفكر إلا من خصه الله عز وجل بنور التوحيد والمعرفة)) [بحار الأنوار، ج68، ص326]، وقوله: ((أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته)) [جامع السعادات، ج1، ص161]، والمراد من التفكر في الله في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو التفكر في قدرته سبحانه وتعالى وفي صنعه وعجائب أفعاله وفي مخلوقاته وغرائب آثاره ومبدعاته، لا التفكر في ذاته عزّ وجلّ، لتوارد الأخبار في المنع عنه، معللاً بأن التفكر في ذاته سبحانه يورث الحيرة والدهشة واضطراب العقل.
بعد أن اتضح ما تقدم، آن أوان الإجابة على تلك التساؤلات واحداً تلوَ الآخر:
هل التّقوَى هي الباعِث على التّفكُّر أو العكس؟
جوابه: يُعدُّ التفكر أوّل شرط من شروط مجاهدة النفس، وبه يوقن الإنسان أنه لا خالق إلا الله كما في قوله عزّ ذكره: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:12 – 13]، فالتفكر في حقيقة الأمر تسخير العقل وتصحيح إرادة الإنسان من الجانب الخلقي فضلاً عن تقويته أصول التقوى في النفس، الأمر الذي يؤدي إلى تقويم الأفعال وتشذيب السلوك، والعبادة الحقة هي ما كانت بتحريك من العقل، فالتفكر في الطبيعة والخلقة وفي قصص الأمم السالفة والأحداث التاريخية باعث على إحياء العقل وإنعاشه فيؤدي إلى استقامة الإنسان وعدم انحرافه وانحطاطه وترديه واتباع شهواته، فاتباع الشهوات يشعر بعدم الانصياع لما أكد عليه القرآن الكريم والسنة المطهرة من التفكر في آيات الله عزّ وجلّ، وعدد من هذه الآيات جاء في تعداد نعم الله عزّ وجلّ وما سخره للإنسان في هذه الأرض من وسائل الحياة، كما في قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3].
وفي قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]، وغيرها من الآيات المباركة.
فالتفكر باعث على التقوى، والتقوى لها الاثر البالغ في دوام التفكر وادامته.
وبالجملة فإن إدمان التفكر عبادة وأصل لجميع العبادات وهو أفضلها.
وعن سؤال: هل الأمر بالتفكُّر الوارد في الآيات والروايات هو مُطلق التّفكُّر أو التّفكُّر بِحُدودٍ قد حُدّتْ مِن قِبَل الشّريعة الغرَّاء؟
نجيب: ليس المراد مطلق التفكر فيشمل حقيقة الذات المقدسة وحقيقة قدرته وسائر صفاته ؛ إذ معرفتها والتفكر فيها خارج عن قدرة البشر ولا يصل إليها العقل، والتفكر فيها يؤدي إلى الضلال المبين والإلحاد في الدين بل المراد به التفكر في آيات صنع الله وآثار قدرته ؛ فإن التفكر فيها وفي عظمتها يدل على عظمة الصانع وكمال قدرته ، ومما يدل على ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ((إياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه)) [الكافي، ج1، ص93]، وما رواه حسين بن المياح عن أبيه قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ((من نظر في الله كيف هو، هلك)) [المصدر السابق].
ومنه تعرف أن التفكر على قسمين: تفكر في الخلق وهو مما حرصت الشريعة الإسلامية على الحث على إدمانه وإدامته.
وتفكر في الخالق وهذا مما ورد المنع عنه لاقتضائه الهلاك كما ورد في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) المتقدم في الرواية آنفة الذكر.
وعن السؤال: متى يأتي دوْر التّفكُّر؟ بعد معرِفة الله سُبحانه وتعالى أو أنّه هو الطّريق الموصِل إلى معرِفة الله عزَّ وجلّ؟
نجيب: أنه غالباً ما يأتي في ذيل الآيات المسخرات الحث على التفكر، وكأنه وسيلة موصلة إلى فهم طبيعة هذه الآيات التكونية التي تفضي إلى حقيقة واحدة وهي أن وراء هذا الكون المُسخَّر إله واحد يستحق من العبد الثناء عليه والشكر له على جميع المسخرات، وأول مراتب الشكر: العبادة، وهناك حقيقة أخرى تتلو ما أفضت إليه الحقيقة الأولى، وهذه الحقيقة هي عدم عبثية خلق العالم الدنيوي، وهذه حقيقة نطق بها القرآن الكريم على لسان المتفكرين من المؤمنين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]، فدلت هذه الآية على أن عالم الدنيا ما هو إلا مطية الخلق إلى العالم الحقيقي, كما جاءت آية أخرى تؤكد هذه الحقيقة لكن في سياق استنكار فعل الغافلين عن الآخرة: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:7]، فقد أرشد سبحانه في هذه الآية الشريفة إلى طريق العلم واليقين به، وهو التفكر في خلق الكون بأرضه وسمائه، وما فيهما من تدبير وإحكام وتنسيق بين أجزائه وكلياته، ومنه تعرف أن التفكير العلمي الرصين هو الطريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى من خلال التفكر في خلقه وتدبر عظمته، فحقيق به أن يكون أفضل صنوف العبادة وأرقى وسائل التكامل الذاتي للإنسان.
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.