مركز الدليل العقائدي

هل يدخُل إبليسُ ضمن عموم المسبِّحين؟

تفاصيل المنشور

السؤال

في القرآن الكريم وردتِ الآية الكريمة {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، فهل يدخل إبليسُ لعنةُ الله عليه في مضمون هذه الآية؟

السائل

علي عدنان باقر

تفاصيل المنشور

السؤال

في القرآن الكريم وردتِ الآية الكريمة {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، فهل يدخل إبليسُ لعنةُ الله عليه في مضمون هذه الآية؟

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.

التسبيحُ في اللغة يعني التنزيهَ عن النقائص والمعايب. فعندما ينزِّه شخصٌ أحدًا عن النقائص والعيوب يقال: سبَّحه، وقدَّسه. إذًا، التسبيحُ ينطوي على معنى التقديس والتنزيه، وأيُّ تفسيرٍ له لا يكون حاكيًا عن تنزيه اللهِ وتقديسه من النقائص والعيوب لا يمكن أنْ يكون صحيحًا أو مقبولًا.

إلا أنَّ كثيراً من المفسِّرين ذهبوا في تفسير “التسبيح” في الآية إلى أنه تسبيحُ عمومِ الموجودات على أساس دلالتها التكوينيّة على ‏صفات الخالق الكماليّة، فهم يرَون أنَّ النظام العجيب المستخدم في تكوين كل واحدٍ من هذه ‏الموجودات ـ بما فيه من دقةٍ متناهية وتعقيد مليء بالأسرار ـ يدل بوضوحٍ على وجودِ “قدرةٍ” ‏عُليا و”حكمة” و”علم” مطلقَين لصانعها وخالقها.‏

فإنَّ كلَّ مخلوقٍ في هذا الكون ـ من الذرة إلى المجرة ـ يشهدُ بلسانِ التكوين على خالقه، ويُبرِز ‏كمال صفاته، مثل علمِه وحكمته وقدرته، وهذه الشهادةُ التكوينية تكفي في التسبيح، حيث يدلُّ ‏الشيء على كمال المؤثِّر وخلوِّه عن النقص، دون الحاجة إلى أنْ يكون التنزيه بصيغةِ سلب ‏النقائص ابتداءً، ففي مجال تنزيه الله عن الشريك، يدلُّ النظام الموحَّد السائد في الكون ـ من ‏أصغر مكوناته إلى أكبرها ـ على أنَّ جميع هذه المخلوقات صُنِعت بإرادةِ خالقٍ واحد دون أيِّ ‏مشاركةٍ من خالقٍ آخر، فوحدةُ النظام دليلٌ قاطع على وحدة المنظِّم وتنزيهه عن الشريك.‏

وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الأسرار الدقيقة والتقدير المتقَن في خلْق الموجودات يكشفانِ عن علم ‏الصانع وحكْمته وقدرته، ويشهَدان بتنزُّهه عن أيِّ نقصٍ كالعجز أو العبث أو الجهل، وهكذا، ‏يكفي في التسبيح دلالةُ الموجودات على الكمال الإلهيِّ، حيث يكون ذلك ملازمًا لدفع أيِّ صفةِ ‏نقصٍ عنه، دون أنْ تكون الدلالةُ مباشرةً أو صريحة على نفي الجهل.‏

وبناءً على هذا التفسير القائل بأنَّ كل موجودٍ في الكون يسبِّح اللهَ تعالى بلسانِ حاله، أيْ بدلالة تكوينه على صفات خالقه، فإنَّ إبليس اللعينَ يدخل ضمن هذا العموم المذكور في قوله تعالى: ‏{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}‏؛ وذلك لأنَّ التسبيحَ في هذا السياق يعني دلالةَ المخلوق على صفات الخالق الكمالية.

لكنّ الآية محلَّ السؤال، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ ‏تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فهي تدلُّ على أنَّ كل شيءٍ في الكون يسبِّح بحمد الله، وعند مقارنتها بالآية ‏الكريمة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمواتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ ‏وَتَسبيحه} [النور:41]، نجد أنَّ القرآن الكريم ينسِب العلم والوعيَ إلى المخلوقات المسبِّحة، أيْ ‏أنها تُدرك عظمةَ الله، وتقدِّسه بطرقٍ مختلفة، وهذا الإدراكُ قد لا يكون بالضرورة إدراكًا واعيًا كما ‏نفهمه نحن، بل هو نوعٌ من الإدراك الكونيِّ المتجلِّي في حركة الكون وسيْره.‏

فكيف يمكن أنْ يَدخل إبليسُ ضمن هذا العموم المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ ‏مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}؟!

فإذا كانتِ المخلوقات تسبِّح اللهَ عن وعيٍ وإدراك، فكيف يفعل ذلك مَن عصى اللهَ، وكفرَ به؟ ‏

بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ تتمة الآية الأولى تقول: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسبيحَهُمْ}، فكيف فَقِه المفسِّرون تسبيحَ المخلوقات، وقالوا: هو تكوينها ودلالة خلقها ووجودها؟!

والخلاصةُ أنّ إبليس لا يسبِّح الله عن وعيٍ وإدراك؛ لأنه كافر، ولكنَّ تسبيحه يكون بلا قصدٍ بل تكوينًا مثل سائر المخلوقات غير العاقلة في تسبيحها لله من الناحية التكوينية فقط.

والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.