تفاصيل المنشور
- المستشكل - أبو عبد الرحمن
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 10 مشاهدة
تفاصيل المنشور
قال عياض: “اشتراط كون الإمام قرشيًّا مذهبُ العلماء كافة، وقد عدُّوها من مسائل الإجماع” (فيض القدير، للمناوي، 3: 189)، ونظرًا لأنَّ أبا بكرٍ كان من قريش، نستنتج من ذلك أنَّ أبا بكر هو الإمام الذي يجب طاعته على وفق هذا الشرط الإجماعيّ.
المستشكل
أبو عبد الرحمن
قال عياض: “اشتراط كون الإمام قرشيًّا مذهبُ العلماء كافة، وقد عدُّوها من مسائل الإجماع” (فيض القدير، للمناوي، 3: 189)، ونظرًا لأنَّ أبا بكرٍ كان من قريش، نستنتج من ذلك أنَّ أبا بكر هو الإمام الذي يجب طاعته على وفق هذا الشرط الإجماعيّ.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنَّ اشتراط كون الإمام من قريش هو شرطٌ اتّفق عليه علماءُ أهل السُّنة على أنه صفةٌ عامة لمن يتولّى الإمامة، ولكنّ هذا الشرط لا يقتضي بحالٍ من الأحوال حصرَ الإمامة في شخصٍ بعينه، كالقول بأنَّ أبا بكر هو الإمام الواجب طاعته استنادًا فقط لكونه قرشيًّا.. فكيف يمكن اعتبار شرط القرشية دليلًا على حصر الإمامة في أبي بكر، بينما هذا الشرط يشمل غيرَه من قريش ممن تتوفَّر فيهم شروطٌ أخرى للإمامة؟!
وقد نصّ علماءُ أهل السُّنّة – بالإضافة إلى وجوب كون الإمام قرشيًّا – على مجموعةٍ من الصفات الواجب توفُّرها في الإمام الواجب الطاعة، ومنها:
1 – العدالة. [الفَرْق بين الفِرَق، للبغدادي، ص341. والإيجي في المواقف، ص587. والماوردي في الأحكام السلطانية، ص5. والتفتازاني في شرح المقاصد، ج5، ص23. وغيرهم].
ولا عدالة لأبي بكرٍ بحسب النصوص الصحيحة، فقد ورَد في أصحِّ الكتب والمصادر السُّنّية ما ينفي عدالتَه، حيث يشهد عمرُ بن الخطاب بنفسه على أنَّ العباس عمَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأميرَ المؤمنين عليًّا (عليه السلام) كانا يرَيان أبا بكر وعمرَ كاذبَين، آثِمَين، غادِرَين، خائنَين. فقد روى الزهري أنَّ مالكَ بن أوس بن الحدثان نقل عن عمر بن الخطاب ـ في حديث طويل ـ قولَه مخاطبًا العباس وعليًّا (عليه السلام): ((فلما توُفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا وليُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها. فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نورث ما تركنا صدقة”، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا… إلخ الرواية)) [صحيح مسلم، ج5، ص 152].
2 – الأعلمية. [الإيجي في المواقف، ص586. والبغدادي في الفَرْق بين الفِرَق، ص341. والماوردي في الأحكام السلطانية، ص5. والتفتازاني في شرح المقاصد، ج5، ص233. وغيرهم].
ولا عِلم لأبي بكر بحسب المرويّات السُّنية التي تبيِّن جهله، فقد رُوي عن قُبيصة بن ذؤيب، قال: ((جاءت الجدَّة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، فقال: ما أعلم لكِ في كتاب الله شيئًا، ولا أعلم لك في سُنَّة رسول الله من شيءٍ حتى أسأل الناس، فسأل، فقال المغيرة بن شعبة: سمعتُ رسول الله جعل لها السّدس، فقال: مَن يشهد معكَ؟ أو مَن يعلم معك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ذلك، فأنفذه لها)). [مسند أحمد، ج29، ص499، ط. الرسالة].
وعن الشعبي قال: ((سُئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإنْ كان صوابًا فمِن الله، وأن كان خطأً فمِنّي ومِن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد، فلما استخلف عمر، قال: إني لأستحيي الله أنْ أردَّ شيئًا قاله أبو بكر)). [مسند الدارمي، ج4، ص1944، تـ. حسين أسد].
وقال القرطبي في تفسيره: ((قال إبراهيم التيمي: إنَّ أبا بكر الصديق سُئل عن تفسير الفاكهة والأبِّ فقال: أيّ سماءٍ تظلّني، وأيّ أرض تقلّني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم؟)). [الجامع لأحكام القرآن، ج19، ص223].
علاوة على ذلك فإنَّ شرط القرشيّة في الإمامة مبتنٍ على حديثِ “الأئمة من قريش”، الذي رُوي بألفاظٍ مختلفة، منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يزال الدين قائمًا حتى تقومَ الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفةً، كلُّهم من قريش…)) [صحيح مسلم، ج6، ص4، كتاب الإمارة. باب الناس تبعٌ لقريش. والخلافةُ في قريش. مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص86 و 88 و 98. سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج2، ص690].
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفةً … كلُّهم من قريش)) [صحيح مسلم، ج4، ص6، كتاب الإمارة. باب الناس تبعٌ لقريش. والخلافةُ في قريش. مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص98 و 101. صحيح ابن حبّان، ج15، ص45].
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفةً … كلُّهم من قريش)) [سنن أبي داود، ج2، ص309].
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يزال هذا الدين ظاهرًا على من ناواه، لا يضرُّه مخالفٌ ولا مفارق، حتّى يمضي من أمتي اثنا عشر أميرًا … كلُّهم من قريش)) [مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص87 و88 و90. المستدرك، ج3، ص617]،… إلى غيرها من ألفاظ الحديث.
ولعلماء أهل السُّنة في معنى حديث “الخلفاء اثنا عشر” تخبُّطٌ عجيب وتفاسير غريبة لا تتَّفق مع ظاهر المعاني الواردة في هذا الحديث، فقد قال الحافظُ سليمان البلخي الحنفي: ((قال بعض المحققين: إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر قد اشتهرت من طرقٍ كثيرة فبشرح الزمان، وتعريف الكون والمكان، علم أنّ مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حديثه هذا: الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته؛ إذ لا يمكن أنْ يُحمَل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثني عشر «وهم أربعة»، ولا يمكن أن يحمله على ملوك الأموية لزيادتهم عن اثني عشر (وهم ثلاثة عشر) لظلمهم الفاحش، إلّا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “كلهم من بني هاشم”، في رواية عبد الملك عن جابر)) [ينابيع المودّة، للحافظ سليمان القندوزي الحنفي، ج3، ص209].
وقد بلغ الأمرُ ببعض سلف أهل السُّنة إلى منع توضيح حديث “الأئمة من قريش” الذي اتفق على صحته وتواتُره جمهورُ المسلمين من السُّنة والشيعة، فقد قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في كتابه “إجابة السائل”، سؤال رقم 221: ((لماذا لا يبيِّن العلماءُ للمسلمين حديثَ: الأئمة من قريش؟ ج221: إنَّ هذه المسألة لها دخلٌ بالسياسة أكثر وأكثر، من أجل هذا نجد كثيرًا من أهل العلم لا يستطيعون أنْ يتكلموا فيها، ولقد كان بعضُ الأفاضل يدرِّسنا، ونحن في الجامعة الإسلامية، وكان يدرِّسنا تاريخ الخلفاء، ثم بعد تاريخ الخلفاء يتملَّص من هذه المسألة، والمدرِّس نفسه يتملَّص من هذه المسألة نفسها؛ لأن حكّام المسلمين لا يُرضيهم هذا الكلام، أن يُقال: الأئمة من قريش)) [إجابة السائل على أهم المسائل، لمقبل الوادعي، ص438، ط. دار الحرمين بالقاهرة].
فالشيخ الوادعي يقرّ بأنَّ مسألة توضيح حديث “الأئمة من قريش” مرتبطة بالسياسة، مما يمنع العلماء من تناولها وإيضاحها والخوض في بيانها، ويشير الوادعي إلى تجنُّب العلماء الخوض في هذا الموضوع، ويبيِّن عدم رضا الحُكَّام عن طرحه، مما يؤكد بوضوحٍ أنَّ هذا الحديث لا ينطبق إلا على عليٍّ وبنيه من الأئمة الهُداة (عليهم السلام).
وأما ما يخصُّ قرشية أبي بكر فقد دلَّتِ الوثائقُ التاريخية على أنّه ليس من أشراف قريش، بل هو من طبقةٍ أقل شأنًا، ففي رواية قصة دغفل النسّابة مع أبي بكر بعد أنْ سألهم أبو بكر عن نسبِهم، وأجابوه، قال له أحدهم، وهو دغفل: ((يا هذا، إنك قد سألتَنا فأخبرناك، ولم نكتُمْك شيئًا…))، فسأله، وسأله إلى أنْ قال له دغفل: ((أما والله يا أخا قريشٍ لو ثبت لأخبرتُك أنك من زمعات قريش، ولستَ من الذوائب)). [دلائل النبوة، لأبي نعيم الأصبهاني، ص285].
وفي بيان معنى (زمعات قريش)، قال ابن منظور في لسان العرب: ((في الحديث، حديث أبي بكر والنسّابة: إنك من زمعات قريش، الزمعة، بالتحريك: التلعة الصغيرة، أيْ لست من أشرافهم، وهي ما دون مسايل الماء من جانبي الوادي)). [لسان العرب، لابن منظور، ج٨ ، ص١٤٤].
وقال أبو موسى الأصبهاني المديني: ((في قِصّة أبي بكر مع النَّسّابة: “إِنّك مِن زَمَعَات قريش” قيل: الزَّمَعَة: التَّلْعَة الصغيرة: أي لستَ من أشَرافِهم، وقيل: هي ما دُونَ الرَّحَبة مِن مَسايِل المَاءِ في جانب الوادي. والزَّمَعِ والأزْمَاعُ: المآخِيرُ والأَدْوانُ والأتْباعُ والرُّذَّال)) [المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث، ج2، ص26].
وقال ابن الأثير في النهاية: ((في حديث أبي بكر والنسّابة «إنك من زمعات قريش» الزمعة بالتحريك: التلعة الصغيرة: أي لست من أشرافهم، وقيل: هي ما دون مسايل الماء من جانبي الوادي)) [النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، ج2، ص313].
ويتحصَّل مما تقدَّم أنّ دغفلًا النسّابة ينسب أبا بكر إلى “زمعات قريش” ويعبِّر عن تقويمه لنسبه، حيث يشير إلى أنَّ أبا بكر ليس من أشراف قريش، بل من طبقةٍ أقل شأنًا، فالتعبير “زمعات قريش” يدل على التلعة الصغيرة أو المواقع الأدنى من الوادي، في إشارةٍ إلى عدم الانتماء إلى صفوة قريش أو ذروتها.
ويتلخَّص مما تقدَّم: أن اشتراط القرشية للإمامة شرطٌ عامٌّ لدى أهل السُّنة، لكنّه لا يخصِّص الإمامة بشخصٍ معيَّن كأبي بكر، فبالإضافة إلى القرشية يجب توفُّر صفات أخرى في الإمام، مثل العدالة والعلم، والتي وُجِدت نصوصٌ تشير بوضوح إلى انتفائها عن أبي بكر. أما حديث “الأئمة من قريش”، فغالبُ تفاسيره تشير إلى الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام). ثمَّ إن مكانة أبي بكر في قريش لم تكنْ من الأشراف، بل ما هو أدون وأدون من ذلك، مما يجعل حصر الإمامة به غير مبرَّر على ما جاء في الاستشكال.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.