تفاصيل المنشور
- السائل - أحمد ناجي
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 19 مشاهدة
تفاصيل المنشور
هل يمكنُ لأحدِ مراجع الشيعة توضيحُ الرواية الصحيحة السند الواردة في تفسير القمي (ج2، ص229-232) التي تُسيءُ إلى نبيِّ الله داود، حيث تتحدَّث عن علاقته بامرأةٍ متزوجةٍ وعِشْقه لها وقتْل زوجها ليتزوَّجها.. هل يمكن الجواب بشرط عدم القول: إن الرواية تقية؟!
السائل
أحمد ناجي
هل يمكنُ لأحدِ مراجع الشيعة توضيحُ الرواية الصحيحة السند الواردة في تفسير القمي (ج2، ص229-232) التي تُسيءُ إلى نبيِّ الله داود، حيث تتحدَّث عن علاقته بامرأةٍ متزوجةٍ وعِشْقه لها وقتْل زوجها ليتزوَّجها.. هل يمكن الجواب بشرط عدم القول: إن الرواية تقية؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمدٍ وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
ليس كلُّ ما صحّ سنَده يكون متْنه صحيحًا، ولا يُقبل خبر الواحد الذي ينافي حكْمَ العقل وحكم القرآن الثابتينِ، فالرواية الحجّة عند الشيعة الإمامية يُشترَط فيها أنْ تكون صحيحة السند، وأنْ لا تخالفَ القرآنَ الكريم ولا العقل القطعيَّ ولا الحقائق العلمية الثابتة، وأنْ لا تخالف المسلَّمات في الشريعة ولا ثوابت المذهب، وأنْ لا تكون صادرةً عن طريق التقية، وأن لا تكونَ معارِضة لروايةٍ أخرى من الروايات الصحيحة عندنا، وإذا كان هناك تعارُضٌ بينها وبين روايةٍ أخرى فيُنظَر فيه هل هو تعارُضٌ من النوع المستقرِّ أو غير المستقرِّ؟ وإذا كان من النوع غيرِ المستقر فهل يمكن الجمعُ بينهما جمعًا عرفيًّا أو لا؟ وإذا كان من المستقر فهل توجد له مرجحات في المقام أو لا؟
ثُمَّ إنه لا يحقُّ لمن يَحتجُّ على الشيعة بمرويّاتهم أنْ يَشترط عليهم عدمَ الحكم على تلك الروايات وتحديد ما إذا كانت صادرةً عن طريق التقية أم لا؛ لأن ذلك أمرٌ مستنكَرٌ في باب التحاور والمناظرة، هذا من جانب.
ومن جانبٍ آخر، فإن كتاب التفسير الذي وردتْ فيه تلك القصة المسيئة لمقام النبوَّة، إنما هو منسوبٌ إلى القمي نتيجةً لعملية تلفيقٍ جَمعتْ بين إملاءاته مع تفسير أبي الجارود وروايات أخرى أضافها أبو الفضل عباس بن محمد العلوي، فقد قال العلامة الشيخ “محمد هادي معرفة”، في كتابه “صيانة القرآن من التحريف”: ((تقدّم أنّ هذا التفسير منسوبٌ إليه من غير أنْ يكون من صنْعه، وإنما هو تلفيقٌ من إملاءاته على تلميذه أبي الفضل عباس بن محمد العلوي، وقسط وافر من تفسير أبي الجارود، ضمّه إليها أبو الفضل، وأكمله برواياتٍ من عنده، وكما وضع له مقدّمة، وأورد فيها مختصرًا من رواياتٍ منسوبةٍ إلى أمير المؤمنين(ع) في صنوفِ آي القرآن”، وقد يُستدلّ على ذلك بأدلةٍ، أهمّها:
أ ـ أنَّ إسناد ما ورد فيه ساقطٌ عن الحُجِّية، وذلك لوجود المجاهيل فيه، كأبي الفضل عباس بن محمد العلوي، وغيره .
ب ـ وجود بعض العبارات في الكتاب تدلّل على نسبته إليه، كقوله: “رجع إلى تفسير علي بن إبراهيم”، “رجع إلى رواية عليّ بن إبراهيم”، “رجع إلى حديث علي بن إبراهيم”، وغيرها.
وعليه، فإنّ النتيجة أنّ التفسير الموجود هو خليطٌ من تفسير القمّي وغيره، ولا يمكن التمييز في ذلك)). [صيانة القرآن من التّحريف، للشيخ محمد هادي معرفة، ص187-188].
أما القصة التي تَذكر أنَّ النبيَّ داود (عليه السلام) كان يهوى امرأةً متزوجةً، فقَتل زوجَها ليتزوَّجها، فقد روتْها المصادرُ السُّنية قبل أنْ يرويَها التفسير المنسوب إلى القمي، فقد روى ابن أبي شيبة في “المصنف”، عن ابن عباس ((أن داود حدَّث نفسه إن ابتُليَ أنْ يعتصم، فقيل له: إنك ستُبتلى، وتعلم اليوم الذي تُبتلى فيه، فخذْ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الذي تُبتلى فيه، فأخذ الزبورَ، فوضعَه في حِجره، وأغلق بابَ المحراب، وأقعدَ منصفًا على الباب، وقال: لا تأذنْ لأحدٍ عليَّ اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائرٌ مذهَّبٌ كأحسن ما يكون الطير، فيه من كل لونٍ، فجعل يدرُج بين يديه، فدنا منه، فأمكن أنْ يأخذه، فتناوله بيده ليأخذه، فاستوفزه من خلفه، فأطبق الزبورَ، وقام إليه ليأخذَه، فطار، فوقع على كوَّة المحراب، فدنا منه أيضًا ليأخذه، فوقع على خُصٍّ، فأشرف عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بالمرأة عند بِركتها تغتسل من المحيض، فلما رأتْ ظله حرَّكت رأسها، فغطَّتْ جسدها بشعرها، فقال داود للمنصف: اذهب فقلْ لفلانة تجيء، فأتاها فقال لها: إنَّ نبي اللَّه يدعوكِ، فقالتْ: ما لي ولنبيِّ اللَّهْ؟ إن كانت له حاجةٌ فليأتني، أما أنا فلا آتيه، فأتاه المنصف،َ فأخبره بقولها، فأتاها، وأغلقتِ البابَ دونه، فقالت: ما لك يا داود؟ أما تعلم أنه مَن فعل هذا رجمتموها، ووعظتْه، فرجع، وكان زوجُها غازيًا في سبيل اللَّه، فكتب داود (عليه السلام) إلى أمير المغزى: انظر “أوريا” فاجعله في حمَلة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم وإما أن يُقتلوا، فقدَّمه في حمَلة التابوت، فقُتل، فلما انقضت عدَّتها خطبها)) [مصنف ابن أبي شيبة، ج17، ص527، تـ. الشثري].
وروى نحوه الطبري في تفسيره. [تفسير الطبري، ج21، ص185، ط. دار التربية والتراث]، وراواه – أيضًا – ابن الأعرابي في معجمه. [معجم ابن الأعرابي، ج1، ص78]. ونحوهم رواه البغوي في تفسيره، [تفسير البغوي، ج7، ص78، ط. طيبة].
وجاء في “البدء والتاريخ”: ((واختلفوا في سبب خطيئته، فالمعروف عند أصحاب الأخبار وأهل الكتاب ورواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أشرَف، فرأى امرأةً، فوقعت في قلبه، فبعث زوجَها في مَن بعث في الحرب حتى استُشهد، فلما انقضت عدة المرأة تزوجها، فولدتْ له، واسم المرأة بتشبع، واسم زوجها أوريا)) [البدء والتاريخ، ج3، ص101].
وكثيرون غيرهم من علماء أهل السُّنة ممن ذَكروا هذه القصة المشينة أو زادوا عليها، ففي ”أحكام القرآن” للجصاص، رغم أنه أنكر تلك القصة، لكنه ذَكر ما لا يقل إساءةً عن تلك القصة، حيث قال: ((إن أوريا بن حنان لم تكن له امرأة، وقد خطب امرأة، فخطبها داود مع علمه بأن أوريا خطبها، وتزوجها. وكان فيه شيئان مما سبيل الأنبياء التنزُّه عنه: أحدهما: خطبته على خطبة غيره، والثاني: إظهار الحرص على التزويج مع كثرة مَن عنده من النساء، ولم يكن عنده أنَّ ذلك معصية، فعاتبه الله تعالى عليها…)) [أحكام القرآن، للجصاص، ج3، ص499، ط. العلمية].
وأكد العلامة الطباطبائي في “الميزان”، أنَّ القصة مأخوذة من التوراة. [تفسير الميزان، للطباطبائي، ج١٧، ص٢٠٠].
وفي “عيون أخبار الرضا” في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات، قال الإمام الرضا (عليه السلام) لابن جهم: ((وأما داود فما يقول مَن قِبلكم فيه؟ قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصوَّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع داود صلاته، وقام يأخذ الطير إلى الدار، فخرج في إثره، فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطير في دار أُوريا بن حيان. فاطلع داود في إثر الطير، فإذا بامرأة أُوريا تغتسل، فلما نظر إليها هواها، وكان قد أخرج أُوريا في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدِّمْ أُوريا أمام التابوت، فقُدِّم، فظفر أُوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية أنْ قدِّمه أمام التابوت، فقدِّم، فقتل أُوريا، وتزوج داود بامرأته.
قال: فضرب الرضا عليه السلام يده على جبهته، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيًّا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في إثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل.
فقال: يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك إن داود عليه السلام إنما ظن أنه ما خلق الله خلقًا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه الملكين، فتسوَّرا المحراب، فقال: خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق، ولا تشطط، واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة،: فقال أكفلنيها، وعزَّني في الخطاب، فعجل داود على المدَّعى عليه، فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، ولم يسأل المدَّعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعي عليه، فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، أ لا تسمع الله عز وجل يقول: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق} إلى آخر الآية.
فقال: يا ابن رسول الله فما قصته مع أُوريا؟ قال الرضا عليه السلام: إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قُتل لا تتزوج بعده أبدًا، فأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قُتل بعلها داود عليه السلام، فتزوج بامرأة أُوريا لما قتل، وانقضت عدتها، فذلك الذي شق على الناس من قتل أُوريا)) [عيون أخبار الرضا (ع)، للشيخ الصدوق، ج١، ص١٧٢].
وفي “أمالي الصدوق” بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال لعلقمة: ((إن رضا الناس لا يملك، وألسنتهم لا تُضبط، أ لم ينسبوا داود عليه السلام إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أُوريا، فهواها، وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قُتل ثم تزوج بها الحديث… وأما ما تضمَّنته غالب الروايات من قصة أوريا وامرأته فهو مما يجلُّ عنه الأنبياء، ويتنزَّه عنه ساحتهم)) [الأمالي، للشيخ الصدوق، ص١٦٤].
قال المرتضى (ره) في “نفائس التأويل”: ((فأمّا من زعم أنّه عرَّض أوريا للقتل، وقدّمه أمام التابوت عمدًا حتّى يُقتل، فقوله أوضح فسادًا من أن يُتشاغل بردّه. وقد رُوي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: لا أوتى برجلٍ يزعم أنّ داود عليه السّلام تزوّج بامرأة أوريا إلّا جلّدته حدّين، حدًّا للنبوّة وحدًّا للإسلام)). [نفائس التأويل، للشريف المرتضى، ج٣، ص٢٦٤].
وقال الشيخ الطوسي (ره) في تفسيره: ((فأما ما يقول بعض الجهّال من القُصّاص أن داود عشق امرأة أوريا، وأنه أمره بأن يخرج إلى الغزو، وأن يتقدَّم أمام التابوت، وكان من يتقدم التابوت مِن شرْطه ألا يرجع إلى أن يغلب أو يقتل، فخبرٌ باطل موضوع، وهو مع ذلك خبر واحد لا أصل له، ولا يجوز أن تُقبل أخبار الآحاد في ما يتضمَّن في الأنبياء ما لا يجوز على أدون الناس، فإنَّ الله نزَّههم عن هذه المنزلة، وأعلى قدرهم عنها)). [التبيان في تفسير القرآن، للشيخ الطوسي، ج٨، ص٥٥٤].
ويتلخَّص مما تقدم أنَّ القصة المتداولة حول النبي داود (عليه السلام) وأوريا، والتي تزعم أن النبي داود قَتل أوريا زوج المرأة التي أراد الزواج بها، هي قصة مكذوبةٌ لا أساس لها من الصحة. وقد أكد علماء الشيعة الإمامية أنَّ أصل هذه القصة يعود إلى التوراة، وأن التفسير المنسوب إلى القميِّ والذي وردت فيه هذه الرواية هو في الحقيقة تلفيقٌ لروايات مختلفة ومختلَقة. ولا تقتصر رواية هذه القصة على التفسير المذكور، بل وردت أيضًا في مصادر سنية عديدة.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.