مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

هل آية التبُّين تدلّ على رفض المنهج السنديّ؟

تفاصيل المنشور

السؤال

نحتاج منكم إلى رد ببيان وافي لما قاله كمال الحيدريّ في تفسير الآية السادسة من سورة الحجرات:

إنّ هذه الآية الكريمة تكشف عن موقفٍ واضحٍ من المنهج السنديّ، فهي تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، فإذا أردنا تطبيق هذا المنهج على روايةٍ ضعيفة السند، فماذا نفعل على وفق المنهج السنديّ التقليديّ؟ منهج السيد الخوئي، على سبيل المثال، ماذا يقتضي؟ يقتضي أنْ نرمي بهذه الرواية عرض الجدار؛ لأنها ضعيفةُ السند، ونتجاوزها. ولكن هل القرآن يقول: “ارمِ بها عرض الجدار”؟ كلا، أبدًا! بل يقول: «فتبيَّنوا»، أي: اذهب للتحقُّق والتبيُّن، ولا تكتفِ برفض الرواية لمجرَّد ضعف السند.

فالآية الكريمة تدعو إلى التبيُّن، إلى النظر في مضمون الخبر، إلى البحث، هل هو صحيحٌ أو غير صحيح، هل صدر أو لم يصدر، وليس المدار على حال الراوي، هل هو عادلٌ أو فاسق، برٌّ أو فاجر. فالآية ليستْ بصدد بيان حال الراوي، وإنما بصدد التحقيق في الخبر نفسه.

وأنا أعتقد أنّ الأصوليين عامّة قد بحثوا هذه الآية، ولكنّ هذه النكتة لم يلتفتوا إليها أصلًا، وهي أنّ الآية من أوضح الأدلّة على أنّ المنهج لا بدّ أنْ يكون منهجًا مضمونيًّا، لا سنديًّا. فالمدار على تحقيق صدور الخبر، لا على حال الراوي في نفسه.

ولذلك، لا يصح لنا ـ بحسب الآية ـ أنْ نرمي روايةً لمجرَّد أنها ضعيفة السند أو مجهولة أو غير معتبرة. فكم من المعارف ضاعتْ علينا من النبيّ وأهل البيت (عليهم السلام) لمجرَّد أننا كتبنا في ذيل الرواية: “ضعيفة”، أو “مجهولة”، أو “غير معتبَرة”. فإنّ هذا الحكم له أثرٌ نفسيّ مباشر؛ فإذا قيل: “الرواية ضعيفة”، انتهى الأمر، ولم يعُد للباحث رغبةٌ أو قدرة على الاستفادة منها.

ولهذا أقول: بيني وبين الله، ومع كامل احترامي للقائلين بهذا المنهج، كالسيد الخوئي وأمثاله، إنّ هذا المنهج، المنهج السنديّ الذي أسَّسه السيد الخوئي، منهج يؤدِّي إلى تدمير المعارف. ومع الأسف الشديد، فإنّ بعض تلامذته تابعوه في ذلك، وإنْ كان الكثيرُ منهم لم يوافقوه.

السائل

مجموعة من طلبة الحوزة

تفاصيل المنشور

السؤال

نحتاج منكم إلى رد ببيان وافي لما قاله كمال الحيدريّ في تفسير الآية السادسة من سورة الحجرات:

إنّ هذه الآية الكريمة تكشف عن موقفٍ واضحٍ من المنهج السنديّ، فهي تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، فإذا أردنا تطبيق هذا المنهج على روايةٍ ضعيفة السند، فماذا نفعل على وفق المنهج السنديّ التقليديّ؟ منهج السيد الخوئي، على سبيل المثال، ماذا يقتضي؟ يقتضي أنْ نرمي بهذه الرواية عرض الجدار؛ لأنها ضعيفةُ السند، ونتجاوزها. ولكن هل القرآن يقول: “ارمِ بها عرض الجدار”؟ كلا، أبدًا! بل يقول: «فتبيَّنوا»، أي: اذهب للتحقُّق والتبيُّن، ولا تكتفِ برفض الرواية لمجرَّد ضعف السند.

فالآية الكريمة تدعو إلى التبيُّن، إلى النظر في مضمون الخبر، إلى البحث، هل هو صحيحٌ أو غير صحيح، هل صدر أو لم يصدر، وليس المدار على حال الراوي، هل هو عادلٌ أو فاسق، برٌّ أو فاجر. فالآية ليستْ بصدد بيان حال الراوي، وإنما بصدد التحقيق في الخبر نفسه.

وأنا أعتقد أنّ الأصوليين عامّة قد بحثوا هذه الآية، ولكنّ هذه النكتة لم يلتفتوا إليها أصلًا، وهي أنّ الآية من أوضح الأدلّة على أنّ المنهج لا بدّ أنْ يكون منهجًا مضمونيًّا، لا سنديًّا. فالمدار على تحقيق صدور الخبر، لا على حال الراوي في نفسه.

ولذلك، لا يصح لنا ـ بحسب الآية ـ أنْ نرمي روايةً لمجرَّد أنها ضعيفة السند أو مجهولة أو غير معتبرة. فكم من المعارف ضاعتْ علينا من النبيّ وأهل البيت (عليهم السلام) لمجرَّد أننا كتبنا في ذيل الرواية: “ضعيفة”، أو “مجهولة”، أو “غير معتبَرة”. فإنّ هذا الحكم له أثرٌ نفسيّ مباشر؛ فإذا قيل: “الرواية ضعيفة”، انتهى الأمر، ولم يعُد للباحث رغبةٌ أو قدرة على الاستفادة منها.

ولهذا أقول: بيني وبين الله، ومع كامل احترامي للقائلين بهذا المنهج، كالسيد الخوئي وأمثاله، إنّ هذا المنهج، المنهج السنديّ الذي أسَّسه السيد الخوئي، منهج يؤدِّي إلى تدمير المعارف. ومع الأسف الشديد، فإنّ بعض تلامذته تابعوه في ذلك، وإنْ كان الكثيرُ منهم لم يوافقوه.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنّ الدعوى بأنّ القرآن الكريم يرفض «المنهج السنديّ» ويُبطله، مستندةً إلى تفسير الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، هي دعوًى تحتاج إلى وقفةٍ فاحصةٍ في ضوء القواعد العلميّة، ومحاكمةٍ دقيقةٍ للأصول اللغويّة والعقليّة والقرآنيّة، فإنّ ظاهر الآية لا ينهض شاهدًا على هذا المدَّعى، بل هو في نفسه دليلٌ على خلافه.
إنّ الآية الكريمة قد قيّدتْ مورد الأمر بالتبيُّن بقيد وصف الناقل، وهو كونُه فاسقًا، ومن المعلوم عند العقلاء أنّ التقييد بوصفٍ يقتضي انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف؛ لأن التقييد بالوصف ينبِّه السامع إلى أنّ العلة في الحكم مرتبطةٌ بهذا القيد، وهذا أصلٌ عقلائيٌّ جارٍ في المحاورات العرفيّة، ومقرَّرٌ في أصول الفقه تحت مسمَّى «مفهوم الوصف». فإذا قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، فإنما دلّ بمنطوقه على وجوب التبيُّن في خبر الفاسق، ودلّ بمفهومه على عدم وجوب التبيُّن في خبر غير الفاسق. وهذا المعنى بيِّنٌ لمن ألقى السمع، وهو شهيد.
فإذا دلّ منطوقُ الآية على اشتراط التبيُّن في خبر الفاسق، ودلّ مفهومُها على قبول خبر غير الفاسق من دون هذا التبيُّن، كان ذلك تصريحًا قرآنيًّا بأنّ العدالة في الناقل موجبةٌ لقبول خبره بلا توقُّف، وهذا هو عين المعنى الذي يبتغيه المنهج السنديّ؛ لأن المنهج السنديّ في أصله قائمٌ على النظر إلى حال الناقل من حيث الوثاقة والفسق، فمن كان موثوقًا قُبِل خبرُه، ومن كان غير موثوق توقَّف فيه، ولم يعمل به. فكيف يُدّعى بعد هذا أنّ الآية تنفي المنهج السنديّ، وهي في صريحها تُثبّت اعتبار حال الناقل شرطًا لقبول الخبر؟! وهل هذا إلا قلبٌ للمدلول، وتحويلٌ للآية إلى ما يُناقض ظاهرها ومفهومها ومقتضى سياقها؟!
ثم إنّ الآية نزلتْ في واقعةٍ معيَّنة معروفة في أسباب النزول، وهي إرسال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوليد بن عقبة لقبض الزكاة من بني المصطلق، فلما رجع إليهم افترى عليهم بأنهم منعوا الزكاة، وهمّوا بقتله، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك، وصمَّم على أنْ يقاتلهم، فنزلت الآية الكريمة. [يُنظر: تفسير مجمع البيان، ج9، ص132].. فبيّنت الآيةُ أنّ خبر الفاسق لا يُقبل بمجرَّده حتى يُتبيَّن صدقُه من كذبه. فلو كان كلُّ خبر ـ سواء صدر عن ثقة أو عن فاسق ـ يحتاج إلى التبيًّن والبحث والتحقيق، لم يكن لتقييد الخبر بكونه صادرًا عن الفاسق فائدةٌ، ولكان التنبيه إلى الفسق لغوًا، والقرآن منزَّهٌ عن اللغو. فالتقييد بالفسق ليس عبثًا، بل هو بيانٌ بأنّ الملاك في الاحتياط هو فسق الناقل، وأما إذا كان الناقل موثوقًا عدلًا فلا موجب للتبيُّن.
وهذا المعنى موافقٌ لما أقرّه القرآن في مواضع أخرى من التفريق بين العدل والفاسق، كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، فإنّ اشتراط العدل في الشاهد قرينةٌ واضحة على اعتبار وثاقة الناقل في مقام الحجّة؛ إذ الشهادة خبرٌ عما وقع، والقرآن لم يكتفِ بمطلق الناقل، بل اشترط العدالة، وأمر بالأخذ عن العدل دون غيره، وهذا عينُ ما يعتمده المنهج السنديّ من التفريق بين خبر العدل وخبر غير العدل.
ولو كان القرآن يرفض المنهجَ السنديّ مطلقًا، لكان مقتضى ذلك إلغاء أثر الوثاقة والعدالة في قبول الخبر، وهو ما يُبطله الكتاب نفسُه في موارد كثيرة من قبوله شهادة العدل وردّه شهادة غير العدل، بل لو أُبطل اعتبار حال الناقل، لتعطّلت طرق الإثبات وأبواب القضاء والشهادات، ولانسدَّ باب نقل العلم والأحكام؛ إذ لم يأتِنا شيءٌ من المعارف الدينيّة إلا عن طريق النقل عن المعصومين (عليهم السلام)، فإذا لم يكن اعتبارٌ لوثاقة الناقل، لم يبقَ طريقٌ إلى إثبات حكمٍ ولا إلى معرفة سُنّة، بل لزم تعطيل الدين.
ومن هنا يظهر أنّ دعوى رفض القرآن للمنهج السنديّ دعوًى باطلة؛ لأنها مخالفة لمفاد الآية نفسها، ومخالفة لمفاهيم الآيات الأخرى، ومؤدِّية إلى لوازم باطلة عقلًا ونقلًا، وما أدّى إلى الباطل فهو باطلٌ. بل الآية في حقيقتها تقرير لأصل المنهج السنديّ، وإثبات لحجِّية خبر العدل، وردّ لخبر الفاسق إلا بعد التبيُّن، وهذا هو الأساسُ الذي يقوم عليه علم الدراية وعلم الحديث عند الإماميّة، وهو عين ما عَمل به أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حين أمروا شيعتهم بالأخذ عن الثقات وترك غيرهم، فقال الإمام الصادق (عليه السلام): ((فانظروا عمّن تأخذون هذا الأمر، فإنّ فينا أهل البيت في كل خلف عدولًا ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) [الكافي، ج1، ص32]، فكيف يُظنّ أنّ القرآن يهدم وسيلة حفظ الدين التي بها قامت الشريعة؟!
وعليه، فإنّ الآية الكريمة حجّةٌ قائمةٌ على إثبات اعتبار حال الناقل، وإثبات الفرق بين العدل والفاسق، وإثبات حجّية خبر الثقة بلا حاجةٍ إلى مزيد التبيُّن، وهي تؤسِّس أصلًا عقلائيًّا مقرَّرًا، ولا دلالة لها على رفض المنهج السنديّ، بل دلالتها على إثباته وإقراره أقوى وأظهر.
وأما ما صرّح به السيد كمال الحيدري من قوله: ((إنّ المنهج السنديّ الذي أسّسه السيد الخوئي منهج يؤدّي إلى تدمير المعارف…))، فلا يصدر عن تحقيقٍ، ولا يمتّ إلى الصناعة الاجتهاديّة بصلة، بل هو إطلاق مجرَّد، لا يُبنى على تتبُّع، ولا ينهض عليه برهانٌ.
فإذا كان الأمر كما ذكر، فإنّ اللازم أنْ يظهر أثر ذلك في النتاج العلميّ لمن التزم بهذا المنهج، ولكنّ الواقع بخلافه، فإنّ السيد الخوئي (قدّس سره) قد خلّف تراثًا علميًّا ضخمًا، ودوّن فقهًا استدلاليًّا واسعًا، في العبادات والمعاملات، بل وفي مباحث الإمامة والاعتقاد، كلّها مؤسَّسة على هذا المنهج، ولم يُرَ في مجموعها أثرُ تضييعٍ لمعرفةٍ، ولا طمسٍ لحديث، ولا تقويضٍ لمدرَكٍ من مدارك أهل البيت (عليهم السلام).
بل المتأمِّل في تقريراته ـ في الفقه والأصول والتفسير والعقائد ـ يلحظ كيف كان هذا المنهج مُعينًا له في تنظيم مادّة الاستدلال، وتقديم الموثوق على غيره، وتجنُّب التساهل في النقل، والاحتياط في النسبة، والتورّع عن استظهار ما لم يثبُت صدوره. فأين هذا من دعوى كونه منهجًا يؤدّي إلى تدمير المعارف؟!
ولو كانت تلك الدعوى في محلِّها لما أمكن الركون إلى شيءٍ من آثار السيد الخوئي (قدّس سره)، ولكان جميع نتاجه العلميّ متقوّضًا بهذا المنهج، مع أنه هو عمدة ما يُدرَّس في الحوزات، وتُبنى عليه الفتاوى، وتُربّى عليه الأجيال، ويُعوَّل عليه في تحرير المسائل المستجدّة، ولا يخفى هذا على من له أدنى تتبُّع.
فدعوى أنّ هذا المنهج مفضٍ إلى ضياع المعارف دعوى تُكذِّبها الوقائع، وينقضها مسار التحقيق العلميّ منذ عهد المتقدّمين إلى يوم الناس هذا. ولم يقع الخلل في المعارف من جهة العمل بالمنهج السنديّ، بل الخلل يحصل ممّا يُدخَل في ساحة الحديث من غير تثبُّت، ويُعتمَد لمجرَّد الموافقة الذوقية، ويُترك فيه الاحتياط في النسبة والصدور.
فهذا المنهج هو الذي حفظ به العلماءُ الأعلامُ تراثَ أهل البيت (عليهم السلام)، وصانوا به معارفهم عن التحريف والانتحال والتأويل الفاسد، فكان بذلك أضبطَ المناهج، وأمتنها، وأقربها إلى الصواب، وأبعدها عن الانحراف.
ويتحصَّل مما تقدَّم، أنّ دعوى السيد كمال الحيدري بأنّ القرآن الكريم يرفض المنهج السنديّ، وأنّ المنهج الذي أسّسه السيد الخوئي (قدّس سرّه) يؤدّي إلى تدمير المعارف، دعوًى باطلة في نفسها، فاسدة في لوازمها، مجانِبة لمنهج التحقيق.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.