تفاصيل المنشور
- السائل - ميسم
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 21 مشاهدة
تفاصيل المنشور
ماذا كان الله يفعل قبل أنْ يخلق الكونَ؟ ولماذا خلق البشر بهذه الطريقة ليعبُدوه؟ ومِن أين أتى هو؟ وهل جاء مِن عدمٍ؟
السائل
ميسم
ماذا كان الله يفعل قبل أنْ يخلق الكونَ؟ ولماذا خلق البشر بهذه الطريقة ليعبُدوه؟ ومِن أين أتى هو؟ وهل جاء مِن عدمٍ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قامتْ بوجوده الأشياءُ، وانتظمتْ بحكمته عوالم الإمكان، وتنزّه عن الحدِّ والمقدار، واستغنى عن العلّة والسبب، وصلى اللهُ على محمدٍ وآله مصابيح الدجى وهُداة الورى.
لكي يكون السؤالُ صحيحًا ومقبولًا عند العقلاء، يجب أنْ يكون مبنيًّا على أفكارٍ يمكن تصوّرها، ولا يكون فيها تناقضٌ أو خلطٌ في المعاني، فإذا كان السؤال يفترض أمورًا مستحيلةً أو يجمع بين أشياء لا تجتمع، يكون سؤالًا فاسدًا مِن أصله، ولا يصحُّ الجواب عنه قبل توضيح الخطأ في أساسه.
والسؤالُ هنا من هذا النوع؛ لأنه يحتوي على مفاهيمَ متناقضةٍ، وخلَطَ بين صفات الله جلّ شأنُه وصفات خلْقه، وقياس ما لا يقبلُ القياس.
فأما القول: ماذا كان الله يفعلُ قبل أنْ يَخلق الكونَ؟
فهذا السؤال يفترض أنّ هناك وقتًا سابقًا على الخلق، وأنّ الله سبحانه كان يعيشُ في هذا الوقت ويفعلُ فيه شيئًا. لكنّ هذا خطأ؛ لأن الوقت (الزمان) نفسَه مخلوقٌ، وقد خُلِق مع الكون، ولا وجودَ له قبل الخلق حتى يُسأل: ما الذي جرى فيه؟. فاللهُ سبحانه هو خالق الزمان، ولا يجري عليه، ولا يقع فعلُه فيه كما يقع فعلُنا.
ولأجل تقريب المعنى، تخيّل مَن يسأل:
في أيِّ جهةٍ يقع مركز الدائرة؟ أو ماذا كان يفعل الرقم (1) قبل أنْ تُخترَع الرياضيّات؟.
فهذه أسئلةٌ فاسدةٌ؛ لأن فيها خلطًا واضحًا، فمركزُ الدائرة لا جهةَ له؛ لأنه في الوسط تمامًا، والسؤال عن “جهته” لا معنى له.. والرقم (1) لا “يفعل” شيئًا؛ لأنه ليس شيئًا حيًّا أو فاعلًا، بل هو مفهومٌ ذهنيٌّ، فمثل هذه الأسئلة ليستْ خاطئةً في الجواب فقط، بل هي خاطئةٌ في أصلها.
وكذلك السؤالُ عن فعل الله سبحانه قبل خلْق الزمان، فيه الخطأ نفسه ؛ لأنه يفترض وجودَ شيءٍ لم يكن موجودًا أصلًا، ويجعل الزمانَ سابقًا على اللهِ عزّ وجلَّ، مع أنه هو خالقُه.
وأما القول: لماذا خلقَنا اللهُ لنعبدَه؟
ففيه خلطٌ آخرُ؛ لأن السؤال يوهِم أنّ الله سبحانه خلقَنا لحاجةٍ منه إلى عبادتِنا، أو أنه يريدُ أنْ نطيعَه قهرًا. وهذا غير صحيحٍ؛ فالله تعالى لا يحتاج إلى شيءٍ مِن خلقه، وهو غنيٌّ عنهم. وإنما خَلق الإنسانَ لغايةٍ تعود إلى الإنسان نفسِه، وهي أنْ يصل إلى كماله وسعادته. والعبادةُ ليستْ قيدًا يُقيِّد الإنسانَ، بل هي طريقُه إلى التحرُّر من سيطرة شهواته، ورغباته، وتبعيّاته. فالعبادةُ طريقُ الكمال، لا علامة ُالتسلُّط.
وأما القول: مِن أين أتى اللهُ؟ وهل جاء مِن عدمٍ؟
وهذا أعجبُ ما في السؤال؛ لأنه يبيِّن أنّ صاحبه تصوَّر أنّ الله كائنٌ مثل الأشياء الأخرى، له بدايةٌ، وجاء بعد أنْ لم يكنْ. وهذا يناقض تعريف “الإله” مِن أصله. فاللهُ سبحانه لا يكون مخلوقًا، ولا مركَّبًا، ولا تابعًا لغيره؛ لأنه لو كان كذلك، لما كان هو الخالق، بل مخلوقًا مثل سائر الأشياء. وواجبُ الوجود هو مَن لا يحتاج إلى مَن يوجِده، ولا يمكن أنْ يُسأل: مَن أوجدَه؟؛ لأن هذا السؤال يُطرَح على ما له بدايةٌ، واللهُ عزّ وجلّ لا بدايةَ له، فهو موجودٌ بذاته.
والعقلُ لا يحكم بأنّ كلّ موجودٍ يحتاج إلى خالقٍ من خارج ذاته، بل ينظر في حال ذلك الموجود، فإنْ كان مخلوقًا، أيْ له بدايةٌ، أو وُجِد بعد أنْ لم يكن، فلا بدّ له من خالقٍ؛ لأنّ وجوده لا يفسَّر بنفسه، بل يدلّ على غيره. أمّا إذا ثبتَ أنّ هناك موجودًا ليس له بدايةٌ، ولا يقبل العدمَ، ولا يتوقّف وجودُه على شيءٍ، فهذا لا يُقال له: مَن أوجدَه؟؛ لأنّه ليس مخلوقًا أصلًا، بل هو الخالق نفسُه، وهو الذي يُسمّى في اصطلاح المتكلّمين بـ”واجب الوجود”، أي الموجودُ الذي لا يجوز عليه العدم، ولا يحتاج في تحقُّقه إلى غيرِه، بل تكون كلُّ الموجودات مفتقرةٌ إليه، وهو مستغنٍ عنها.
ثم إنْ قيل: الطبيعةُ أو القوانينُ هي التي أوجدتِ العالم!!
نقول: القوانين لا تفعل شيئًا، بل هي مجرّدُ وصفٍ لكيفيّة حصول الأشياء. فقولُنا: قانون الجاذبيّة أسقط التفاحةَ، لا يعني أنّ القانون له يدٌ أو قوةٌ، بل يعني أننا نَصِفُ ما حدث بقانونٍ. فالقوانينُ لا تصنع الأشياء، ولا تخلق الكون.
وإنْ قيل: الكونُ أتى صدفةً!!
نقول: هذه دعوًى أوهنُ من الأولى؛ لأن الصدفة ليستْ جهةً فاعلة، بل هي نفيٌ للنظام، في حين أنّ الكون مليءٌ بالنظام والدقّة، فكيف يجتمع نفي النظام مع وجوده؟!
والنتيجة، لا مفرَّ من القول بوجود خالقٍ ليس قبله شيءٌ، ولا يشبه خلقَه، ولا يفتقر إلى غيره، وهو الذي خلق الزمانَ والمكان والقوانين والموجودات. وإذا ثبتَ ذلك، فسؤال: مَن خلقه؟ يكون مثل سؤال: ما هو لون اللانهاية؟، أو مَن هو أبو آدم؟، وكلّها أسئلةٌ باطلة مِن أصلها، لا لخفاء الجواب، بل لامتناع المعنى ذاته.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.
مركز الدليل العقائدي.