مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

من يجرؤ أن يسمي الشورى نكبة؟ الشيخ الددو يهتك المستور

تفاصيل المنشور

تفاصيل المنشور

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة ‏الأنام.‏

طلب منا أحد أبرز المتابعين لنا (واحة الغرباء) التعليق على مقطع للشيخ محمد الحسن الدَّدُو الشنقيطي من لقاء له على «بودكاست الرحلة»، نُشر ‏على ‏منصة (يوتيوب) بتاريخ: 29/8/2025، الذي تكلَّم فيه عن أسباب نشوء الحركات ‏الإسلامية، ‏فقال:‏ ((يجب أن ندرك أن هذه الحركات لم تنشأ عن اجتهاد فقط، وإنما نشأت عن ضرورة حصلت، ‏لأن ‏هذه الأمة المحمدية نُكبت نكباتٍ، وهذه النكبات أنا أُقدر أنها إلى وقتنا هذا ستُّ نكبات ‏كبرى حرفتها ‏عن مدارها: النكبة الأولى: كانت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والوحي أشدُّ ‏ما يكون تتابعًا، ‏والنبي صلى الله عليه وسلم في أوجِ قوَّته ونشاطه، ليس في وجهه ورأسه ‏عشرون شعرة بيضاء، ‏ولم يَكتب لنا دستورًا، ولم يبيِّن لنا طريقة اختيار الحاكم ومحاسبته ‏وعزله، ولم يعيِّن لنا حاكمًا ‏معيَّنًا، وكانت أزمة ارتدَّ بسببها جمهور المسلمين عن الإسلام، فكان ‏رجال هذه الأزمة المهاجرون ‏والأنصار، اجتمعوا على بيعة أبي بكرٍ في سقيفة بن ساعدة، ثم ‏اجتمعوا على بيعته في المسجد ‏البيعة العامة، ولم يستطيعوا أن يرجعوا لنا النبوة لأنها غير ‏مكتسبة، وقد ختمت النبوة بمحمد صلى ‏الله عليه وسلم، لكنهم استطاعوا أن يجدوا لنا أحسن بديل ‏بعد النبوة، نزلوا درجة أقلَّ من النبوة، لكن ‏هي أحسن شيء بعد النبوة، وهي الخلافة الراشدة ‏على منهج النبوة)).‏

وقد ثارت ثائرة السّلفيّين وغيرهم عليه، وكأنّه أتى ببدعةٍ من عنده، في حين أنّ ما قرّره ينطبق مع ‏ما هو موجودُ في تراث أهل السنّة والجماعة‏..

وأقول:

إنّ ما ذكره الشيخ الددو من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكتب دستورًا للأمة، ولم يعيّن حاكمًا من بعده، وأنّ ذلك كان أوّل نكبة أصابت الأمة، كلامٌ فيه مجازفة عظيمة، بل هو جناية على مقام النبوّة.

أولًا: إنّ دعوى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ترك الأمة بلا دستور سياسي أو قائد منصوصٍ عليه تعني نسبة التفريط إلى أشرف رسل الله، مع أنّه بُعث ليكون خاتم النبيين ومكمِّل الدين.. أفيُعقل أن يبيّن (صلى الله عليه وآله) دقائق أحكام الوضوء والتيمم والطهارة والحيض والنفاس، ثم يغفل عن أعظم قضية تحفظ الدين بعده، وهي مسألة القيادة والإمامة؟! فهذا غير مقبول عقلًا ولا نقلًا، ويتنافى مع كمال رسالته وعظمة مهمّته.

ثانيًا: إنّ القرآن الكريم نصّ صراحة على إكمال الدين وإتمام النعمة في واقعة الغدير: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]. وهذه الآية وحدها تكذّب دعوى أنّ الأمة تُركت هملاً بلا قائد؛ إذ لا يتحقق الإكمال إلا بتعيين الإمام الذي يحفظ الشريعة ويصونها من التحريف والضياع.

ثالثًا: إنّ روايات الغدير، وحديث الثقلين، وحديث السفينة، وسائر النصوص المتواترة في حقّ أمير المؤمنين (عليه السلام) تمثّل دستور الأمة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فمن يتغافل عنها ثم يقول: ((لم يعيِّن لنا حاكمًا ‏معيَّنًا‏))، إنما يعترف ضمنًا بأنّ تراث أهل السنّة الذي يتبناه خالٍ من هذا البيان، لا أنّ الرسالة خالية منه، فالخلل في المنهج، لا في الرسالة.

رابعًا: تبريره بأنّ الصحابة اجتمعوا في السقيفة وأنهم: ((استطاعوا أن يجدوا لنا أحسن بديل ‏بعد النبوة‏))، فهذا تلاعب بالألفاظ؛ لأنّ الإمامة ليست بديلًا عن النبوة، بل هي امتدادها في حفظ الدين، وأحسن البدائل لا يكون بالاختلاف والاقتتال، ولا بانقلاب الأنصار والمهاجرين بعضهم على بعض، ولا بترك بيعة الغدير التي شهدها الجمع الحاشد.. ولو كانت الخلافة التي جاؤوا بها هي أحسن البدائل، لما سالت الدماء في سبيلها منذ اللحظات الأولى للسقيفة.

ومن هنا يتبيّن أنّ الشيخ (الددو) لم يأت بجديد، بل أعاد اجترار العجز السني في هذا الباب، وهو خلوّ كتبهم من نصٍّ صريح في الإمامة، فظنّ أنّ النبيّ ‏(صلى الله عليه وآله)‏ ترك الأمر بلا بيان! والحقّ أنّ النص موجود، لكنّ السياسة صرفت القوم عنه، فراحوا يبرّرون فراغهم بما قاله (الددو).. وهذا في الحقيقة إدانة لتراثهم، لا قدحًا في حكمة النبيّ (صلى الله عليه وآله).

على أنّ الأدهى من ذلك أنّ السلفية أنفسهم هاجموا الشيخ (الددو) على هذه الكلمة، وعدّوها طعنًا في الرسالة وبدعة في القول، مع أنّهم لم يقولوا بغيرها؛ إذ يصرّحون أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يوصِ إلى أحد، ولم يعيّن خليفة، وأنّ الخلافة شورى بين المسلمين.

فكيف استباحوا لأنفسهم ما أنكروا على غيرهم؟!

فـ (الددو) لم يزد على أن سمّى هذا الاعتقاد بلفظ (نكبة)، بينما السلفية تبنَّوه باسم (الشورى)!! فإن كان قول (الددو) باطلًا عندهم، فليبطُل إذن مذهبهم القائم على نفس الدعوى، وإن كان مذهبهم حقًا، فلا وجه لاعتراضهم عليه؛ لأنه لم يزد على ترجمة مقالتهم بلسان صريح، بل إنّ تناقضهم صارخ.

فإن قالوا: (النبي لم يوصِ ولم يعيّن)، فهذا إقرار بترك الأمة في أخطر قضاياها بلا قائد، وهو ما سمّاه الشيخ الددو (نكبة).

وإن قالوا: (لا، لم تكن نكبة)، سُئلوا: كيف لا تكون نكبة وأنتم ترون الأمة قد تفرّقت شيعًا، وارتدّت قبائل، وسُفكت الدماء منذ السقيفة إلى يومنا هذا؟

ألا يُعدّ هذا أعظم شاهد على أنّ ترك الأمر بلا نصّ كان أعظم مصيبة؟!

وشواهدهم على أنفسهم أوضح دليل؛ فقد قال النووي: ((إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينصّ على خليفة، وهو إجماع أهل السنة)) [شرح صحيح مسلم، ج12، ص205].

وقال فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم: ((وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة… أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينصّ على خليفة)) [صحيح مسلم، ج3، ص1454، تـ. فؤاد عبد الباقي].

فهذه النقول تُثبت أنّ الشيخ (الددو) لم يخرج عن خطّهم قيد أنملة، وإنما سمّى مضمون قولهم باسمه الحقيقي.

والخلاصة، أن ما قاله (الددو) ليس بدعة، بل هو اعترافٌ صريح بمضمون مقالة السلفية أنفسهم؛ غير أنّه وصفها بما تقتضيه نتيجتها بـ (النكبة)، فمن كذّبه لزمه تكذيب أئمته من السلف، ومن صدّقهم لزمه تصديقه.. وهكذا ينقلب سخطهم عليه إدانة لتراثهم قبل أن يكون طعنًا في شخصه.

ومن هنا، فإنّ اعتراضهم عليه هو في الحقيقة انقلاب على أنفسهم، واعترافٌ غير مباشر بأنّ ترك الأمة بلا نصّ صريح من النبي (صلى الله عليه وآله) على الخليفة الشرعي هو عين الخلل، وهو الدليل القاطع على أنّ النصّ في الإمامة ضرورة لا مفرّ منها.

والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.