تفاصيل المنشور
- السائل - الشيخ نزار
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 33 مشاهدة
تفاصيل المنشور
سيدنا، يُشكل البعض قائلاً: قام العلم على الشك والبحث والتحقق والبرهان وقام الدين على وسيلة واحدة وهي الإيمان الغيبي الأعمى!! فما ردكم على هذه الدعوى؟
السائل
الشيخ نزار
سيدنا، يُشكل البعض قائلاً: قام العلم على الشك والبحث والتحقق والبرهان وقام الدين على وسيلة واحدة وهي الإيمان الغيبي الأعمى!! فما ردكم على هذه الدعوى؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنّ القولَ بأنّ العلمَ قام على الشكِّ والبرهان، وأنّ الدينَ قام على الإيمان الأعمى، قولٌ مضطربٌ في مبناه، فاسدٌ في تصوّره؛ لأنّه ينطلق من توهّمٍ أنّ العلمَ والدينَ نقيضان، وأنّ طريقَ أحدِهما هو إلغاءُ الآخر، مع أنّ كليهما يعتمد على أصلٍ واحدٍ، هو تصديقُ العقلِ بما يقوم عليه الدليل.
فليس الشكُّ في العلمِ غايةً بحدِّ ذاته، بل هو مرحلةٌ تمهيديةٌ لاكتشافِ الحقيقة، فإذا تبيّن البرهانُ زال الشكُّ وثبت اليقين، وهذا عينُ ما يدعو إليه الدينُ أيضًا؛ إذ لا يطلب من الإنسان أن يُصدّقَ بلا نظر، بل يحثّه على التأمّل والتفكّر والنظر في الآيات الكونية، قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]، وفي الآياتِ الأنفسيةِ ليهتديَ إلى المبدأِ الحقّ، قال جلّ شأنه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصّلت:53].
والقرآنُ الكريمُ حينما يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، إنّما يقرّر قاعدةً عقليةً محكمةً، مفادُها أنّ البرهانَ هو الأساسُ في التصديق؛ فلا يصحّ أن يُنسبَ إلى الدين أنّه إيمانٌ أعمى؛ لأنّ الإيمانَ في منطقِ الوحي ثمرةُ النظر، لا ثمرةُ التعصّب أو التقليد.. فالمؤمنُ في الرؤيةِ القرآنية هو من استجابَ لعقله، ووعى الحجّة، ثمّ سلّم تسليمَ العارف، لا تسليمَ الجاهل.
أمّا العلمُ التجريبيُّ الذي يُتغنّى به في مقابلِ الدين، فإنّه قائمٌ على مجموعةٍ من المسلَّمات التي لا يُبرهَنُ عليها بالتجربة، بل يؤمنُ بها الباحثُ ابتداءً، كقانونِ السببيّة، وثباتِ القوانينِ الطبيعية، واطرادِ نتائجِ المقدمات، وهذه قضايا عقليةٌ محضةٌ، لا سبيلَ إلى إثباتِها بالمختبر.. فلو أُريدَ الالتزامُ بالبرهان التجريبي التزامًا صارمًا على النحو الذي يتوهّمه أصحاب هذا الإشكال، لانقلب البرهان على نفسه، ولانهدم العلم من أساسه؛ لأنّ كثيرًا من مقدماته ليست تجريبية أصلًا.
فالعلمُ مؤمنٌ بالعقلِ قبل أن يكونَ مؤمنًا بالمجهر، وهذا هو عينُ ما يبني عليه الدينُ دعوتَه، غيرَ أنّ الدينَ يتناولُ العللَ والغايات التي تتجاوزُ نطاقَ المادة، بينما ينحصرُ عملُ العلمِ في توصيفِ الظواهر.
فالفرقُ إذن ليس في المنهج، لأنّ كليهما يستندُ إلى النظرِ والاستدلال، بل في الموضوعِ والمجال. فالعلمُ يبحثُ في الكيفياتِ والآليات، والدينُ يبحثُ في الغايةِ والعلّة، والعقلُ هو الحكمُ بينهما.
وحين يتكاملُ العقلان التجريبيُّ والإيمانيُّ، تتّضحُ الصورةُ الكاملةُ للوجود، فيعلمُ الإنسانُ كيف خُلقَ العالمُ ولِمَ خُلق؛ فالعلمُ يُريه الصنعة، والدينُ يُريه الصانع.
فالإيمانُ الذي دعا إليه الوحيُ ليس تعطيلًا للعقل، بل إعمالٌ له في أشرفِ موارده. والإيمانُ الأعمى الذي يُستنكرُ في هذا الإشكال هو ما يرفضُه الدينُ نفسه، لأنّه يطلبُ اليقينَ المبنيَّ على الدليلِ لا على الظنّ. وقد قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]. فلو كان الإيمانُ تعطيلًا للفكر، لما كانتِ الآياتُ تدعو أولي الألباب، بل تدعو العُميان.
وهكذا يظهرُ أنّ هذا الاعتراضَ لم يُصِب وجهَ الحقّ، لأنّ الشكَّ في العلم ليس غايةً، بل طريقٌ إلى الإيمان القائم على الدليل، والدين لا يقوم على تصديقٍ أعمى، بل على تصديقٍ عقليٍّ يقومُ على الحجّةِ والبرهان.
فالعلمُ يفتحُ الأبواب، والدينُ يبيّنُ الاتجاه، ومن جمعَ بينهما عرفَ أنّ العقلَ والدينَ ركنان متساندان في بناء الحقيقة، لا ينهض أحدُهما إلّا بالآخر.
والحمدُ للهِ أوّلًا وآخرًا، وصلّى اللهُ وسلّم على سيّدِنا ونبيّنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجبين.