مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

من أوهمكم أنّ الدين بلا دليل؟!‏

تفاصيل المنشور

السؤال

سيدنا، يُشكل البعض قائلاً: قام العلم على الشك والبحث والتحقق والبرهان وقام الدين ‏على وسيلة واحدة وهي الإيمان الغيبي الأعمى!! فما ردكم على هذه الدعوى؟‏

السائل

الشيخ نزار

تفاصيل المنشور

السؤال

سيدنا، يُشكل البعض قائلاً: قام العلم على الشك والبحث والتحقق والبرهان وقام الدين ‏على وسيلة واحدة وهي الإيمان الغيبي الأعمى!! فما ردكم على هذه الدعوى؟‏

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، ‏وهُداة الأنام.‏
إنّ القولَ بأنّ العلمَ قام على الشكِّ والبرهان، وأنّ الدينَ قام على الإيمان الأعمى، قولٌ مضطربٌ ‏في مبناه، فاسدٌ في تصوّره؛ لأنّه ينطلق من توهّمٍ أنّ العلمَ والدينَ نقيضان، وأنّ طريقَ أحدِهما ‏هو إلغاءُ الآخر، مع أنّ كليهما يعتمد على أصلٍ واحدٍ، هو تصديقُ العقلِ بما يقوم عليه الدليل.‏
فليس الشكُّ في العلمِ غايةً بحدِّ ذاته، بل هو مرحلةٌ تمهيديةٌ لاكتشافِ الحقيقة، فإذا تبيّن البرهانُ ‏زال الشكُّ وثبت اليقين، وهذا عينُ ما يدعو إليه الدينُ أيضًا؛ إذ لا يطلب من الإنسان أن يُصدّقَ ‏بلا نظر، بل يحثّه على التأمّل والتفكّر والنظر في الآيات الكونية، قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ‏فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]، وفي ‏الآياتِ الأنفسيةِ ليهتديَ إلى المبدأِ الحقّ، قال جلّ شأنه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصّلت:53].‏
والقرآنُ الكريمُ حينما يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، إنّما يقرّر قاعدةً ‏عقليةً محكمةً، مفادُها أنّ البرهانَ هو الأساسُ في التصديق؛ فلا يصحّ أن يُنسبَ إلى الدين أنّه ‏إيمانٌ أعمى؛ لأنّ الإيمانَ في منطقِ الوحي ثمرةُ النظر، لا ثمرةُ التعصّب أو التقليد.. فالمؤمنُ ‏في الرؤيةِ القرآنية هو من استجابَ لعقله، ووعى الحجّة، ثمّ سلّم تسليمَ العارف، لا تسليمَ ‏الجاهل.‏
أمّا العلمُ التجريبيُّ الذي يُتغنّى به في مقابلِ الدين، فإنّه قائمٌ على مجموعةٍ من المسلَّمات التي لا ‏يُبرهَنُ عليها بالتجربة، بل يؤمنُ بها الباحثُ ابتداءً، كقانونِ السببيّة، وثباتِ القوانينِ الطبيعية، ‏واطرادِ نتائجِ المقدمات، وهذه قضايا عقليةٌ محضةٌ، لا سبيلَ إلى إثباتِها بالمختبر.. فلو أُريدَ ‏الالتزامُ بالبرهان التجريبي التزامًا صارمًا على النحو الذي يتوهّمه أصحاب هذا الإشكال، ‏لانقلب البرهان على نفسه، ولانهدم العلم من أساسه؛ لأنّ كثيرًا من مقدماته ليست تجريبية ‏أصلًا. ‏
فالعلمُ مؤمنٌ بالعقلِ قبل أن يكونَ مؤمنًا بالمجهر، وهذا هو عينُ ما يبني عليه الدينُ دعوتَه، غيرَ ‏أنّ الدينَ يتناولُ العللَ والغايات التي تتجاوزُ نطاقَ المادة، بينما ينحصرُ عملُ العلمِ في توصيفِ ‏الظواهر.‏
فالفرقُ إذن ليس في المنهج، لأنّ كليهما يستندُ إلى النظرِ والاستدلال، بل في الموضوعِ ‏والمجال. فالعلمُ يبحثُ في الكيفياتِ والآليات، والدينُ يبحثُ في الغايةِ والعلّة، والعقلُ هو الحكمُ ‏بينهما. ‏
وحين يتكاملُ العقلان التجريبيُّ والإيمانيُّ، تتّضحُ الصورةُ الكاملةُ للوجود، فيعلمُ الإنسانُ كيف ‏خُلقَ العالمُ ولِمَ خُلق؛ فالعلمُ يُريه الصنعة، والدينُ يُريه الصانع.‏
فالإيمانُ الذي دعا إليه الوحيُ ليس تعطيلًا للعقل، بل إعمالٌ له في أشرفِ موارده. والإيمانُ ‏الأعمى الذي يُستنكرُ في هذا الإشكال هو ما يرفضُه الدينُ نفسه، لأنّه يطلبُ اليقينَ المبنيَّ على ‏الدليلِ لا على الظنّ. وقد قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ‏لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]. فلو كان الإيمانُ تعطيلًا للفكر، لما كانتِ الآياتُ تدعو ‏أولي الألباب، بل تدعو العُميان.‏
وهكذا يظهرُ أنّ هذا الاعتراضَ لم يُصِب وجهَ الحقّ، لأنّ الشكَّ في العلم ليس غايةً، بل طريقٌ ‏إلى الإيمان القائم على الدليل، والدين لا يقوم على تصديقٍ أعمى، بل على تصديقٍ عقليٍّ يقومُ ‏على الحجّةِ والبرهان.

فالعلمُ يفتحُ الأبواب، والدينُ يبيّنُ الاتجاه، ومن جمعَ بينهما عرفَ أنّ العقلَ والدينَ ركنان ‏متساندان في بناء الحقيقة، لا ينهض أحدُهما إلّا بالآخر.‏
والحمدُ للهِ أوّلًا وآخرًا، وصلّى اللهُ وسلّم على سيّدِنا ونبيّنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين ‏المعصومين المنتجبين.‏