مركز الدليل العقائدي

مفهوم العصمة يَستبعد كون تعاليم الأئمة وجهات نظر

تفاصيل المنشور

السؤال

هل عصمة الأئمة تستبعد إمكانية تطور وتغيُّر وجهات نظرهم واستيعابهم لمستجدات العصر والمجتمع؟

السائل

وجدان فاخر

تفاصيل المنشور

السؤال

هل عصمة الأئمة تستبعد إمكانية تطور وتغيُّر وجهات نظرهم واستيعابهم لمستجدات العصر والمجتمع؟

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..

السؤال يتعامل مع مفهوم العصمة، ويطرح تساؤلًا عما إذا كانت العصمة تمنع الأئمة من استيعاب التطورات والتحولات الاجتماعية والفكرية التي تحدث في المجتمع. فهو يسأل عما إذا كان الأئمة يمتلكون القدرة على تحديث وجهات نظرهم والتكيف مع العالم الحديث.

إن السائل استخدم مغالطة السؤال المشحون، فعمد إلى دسِّ فروضٍ سابقة ومبررات غير مثبتة بنحوٍ مموَّه في سؤال واحد، حيث افترض الآتي:

1 – أن تعاليم الأئمة المعصومين هي مجرد وجهات نظر!

2 – أن مفهوم العصمة لا يمنع الإمام من إبداء وجهة نظره، وإلا عجز عن استيعاب مستجدات العصر والمجتمع!

وإجابة السؤال تتوقف على بيان أمرين أساسَين:

الأول: مفهوم العصمة.

الثاني: بيان المراد من عبارة “وجهات النظر” في سياق السؤال.

أما الأول: فبناءً على الأدلة العقلية والنقلية، يمكن القول: إنَّ تعريف “العصمة” الوارد في كلمات الأعلام متقارب، وإن التفاوت بينها بسيط. يقول الشيخ المفيد رحمه الله: ((العِصْمَةُ لطفٌ يَفعَلُهُ الله بالمكلَّف بحيث يمنع منه وقوع المعصيَة وترك الطاعَة مع قدرته عليهما‏)) [النكت الاعتقادية: ج10، ص37].

ويقول العلامة الحلي رحمه الله: ((العصمة، لطفٌ خفيٌّ يفعله الله تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب ‏المعصية مع قدرته على ذلك)) [شرح الباب الحادي عشر، ص89].

فالعصمة التي يشير إليها علماؤنا في ما يتعلق بالنبي والإمام هي لطف من الله وحالة ‏معنوية في المعصوم، تمنعه من ارتكاب المعاصي وترك الطاعة. وفي القرآن الكريم، هناك آية ‏تبدو مرتبطة بهذا المفهوم، وهي قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء:113]. فاستنادًا إلى هذه الآية، يمكننا القول: إن العصمة لرسول الله (صلى الله عليه ‏وآله وسلم) هي نتيجة فضل الله ولطفه ورحمته.‏

ويرى بعض المتأخرين من كبار علمائنا أن أساس العصمة في المعصوم يكمن في علمه. إذ إن المعصوم عالمٌ بقبح الذنوب وتأثيراتها السيئة، فهو لا يفعلها. وقد قال ‏العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان بخصوص العصمة: ((ظاهر الآية أنَّ الأمر الّذي تتحقق ‏به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية ‏والخطأ. وبعبارة أخرى، علم مانع ‏عن الضلال، كما إنّ سائر الأخلاق كالشجاعة والعفّة ‏والسخاء، كلّ منها صورة علميّة راسخة ‏موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبّس بأضدادها، من ‏آثار الجبن والتهور والخمود والشره ‏والبخل والتبذير…‏)) [تفسير الميزان، ج5، ص78].‏

والإمام المعصوم (عليه السلام) هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمته، وعدل ‏القرآن الكريم لا يفارقه، ولا يفترق عنه بنصِّ حديث الثقلين الذي يقول:  ((إني تارك فيكم خليفتين: ‏كتاب الله، حبل ممدود ما بين الأرض والسماء، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ ‏الحوض)) [صحيح الجامع الصغير، للألباني، ج1، ص482].‏

ومن هنا فالإمام المعصوم (عليه السلام) مهيمنٌ على كل علوم القرآن من خاصها وعامِّها ومحكمها ‏ومتشابهها ومطلقها ومقيدها.. إضافة لعلوم أخرى تشير إليها الآية الكريمة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ ‏لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، فهذه العلوم البيانية لما هو موجود في القرآن كذلك يعلم بها المعصوم لمحل ‏خلافته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا كان المعصوم هو وارث علم رسول الله ‏‏(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الجانب دون غيره.‏

روى الحاكم النيسابوري في “المستدرك على الصحيحين”، قال: ((أخبرنا أبو النضر محمد بن ‏يوسف الفقيه، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا النفيلي، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، قال عثمان، ‏وحدثنا علي بن حكيم الأودي، وعمرو بن عون الواسطي، قالا: ثنا شريك بن عبد الله، عن أبي ‏إسحاق، قال: سألت قثم بن العباس: كيف ورث عليّ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – دونكم؟ ‏قال: لأنه كان أولنا به لحوقًا، وأشدنا به لزوقًا. [قال الحاكم]: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم ‏يخرجاه)) [المستدرك على الصحيحين، ج3، ص136‏].‏

وروى أيضًا: ((سمعت قاضي القضاة أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي يقول: سمعت أبا عمر ‏القاضي يقول: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: وذكر له قول قثم هذا، فقال: إنما يرث ‏الوارث بالنسب أو بالولاء، ولا خلاف بين أهل العلم أن ابن العم لا يرث مع العم، فقد ظهر بهذا ‏الإجماع أن عليًّا ورث العلم من النبي  صلى الله عليه وسلم دونهم، وبصحة ما ذكره القاضي)) ‏‏[المصدر نفسه].‏

وأخرج الطبراني في المعجم الكبير، والرافعي في مسـنده، بالإسناد إلى ابن عبّاس، قال: ((قال ‏رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]: “مَن سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدنٍ، ‏غرسـها ربّي، فليوالِ عليًّا من بعدي، وليوالِ وليّه، وليقتدِ بأهل بيتي من بعدي؛ فإنّهم عترتي، خُلقوا ‏من طينتي، ورُزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذّبين فيهم من أُمّتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله ‏شفاعتي)). [ جامع الأحاديث، للسيوطي، ج20، ص382؛ كنز العمال، ج12، ص103؛ التدوين ‏في أخبار قزوين، للرافعي، ج2، 485].‏

فالمعصوم هو وارث علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص الأحاديث المتقدمة.‏

وأما الثاني: فالمراد من عبارة ‏”وجهات النظر”‏، فهي تعني الرأي، وطريقة تصور الأمور والنظر إليها لإبداء الرأي فيها. [يُنظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، ج3، ص2409].

فعندما نقول “وجهات النظر” نعني أن تصريحات شخص ما تعكس رؤيته الشخصية وآراءه الخاصة، وليست مستمدة من مصادر خارجية يُطمأن إليها، ويُعتمد عليها، ولا يمكن فرضها على الآخرين أو إلزامهم بالعمل على ضوئها.

فوجهات النظر تتعارض مع مفهوم العصمة؛ نظرًا لأن العصمة نوع من العلم، يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية ‏والخطأ‏، والمعصوم (عليه السلام) لا ينطق عن قناعاته، ولا يقول برأيه، بل شأنه شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووظيفته كوظيفته، فلا يجوز عليه الخطأ البتة فضلًا عن المعصية.

وتوجيهات الأئمة وتعاليمهم وإرشاداتهم على جميع الصُّعد تتسم بالعصمة. والعصمة هنا الحصانة ‏وعدم الخطأ في ما يتعلق بالمعرفة والحقيقة والتوجيه الإلهي. فالأئمة (عليهم السلام) يتمتعون ‏بالعصمة التامة والكمال الروحي، مما يجعلهم محفوظين من الخطأ والزلل في نقل الرسالة الإلهية ‏وتوجيه الناس في الشؤون الدينية والعقَدية والخُلُقية. فتكون توجيهاتهم وتعاليمهم ‏موثوقة، وتعدُّ مصدرًا رئيسًا للهداية والإرشاد للمسلمين في كل زمان ومكان،‏ فالشريعة الإسلامية شريعة عامة باقية إلى آخر الزمان، ومن لوازم ذلك أنها تنطبق على ‏مصالح ‏الخلق في كل زمان ومكان، مهما تغيّرت أساليب العمران، وتطورت أفهام الناس، دل على ذلك الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((حلالي حلال إلى يوم ‏القيامة، ‏وحرامي حرام إلى يوم القيامة)) [بحار الأنوار، ج2، ص260].‏

وروي بصيغة أخرى: ((حلال محمد حلال أبدًا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام ‏أبدًا ‏إلى يوم القيامة، لا يكون غيره، ولا يجيء غيره)) [أصول الكافي، ج1، باب البدع ‏والرأي ‏والمقاييس حديث 19].‏

وهذا يعني أن النصوص الدينية تحتوي على مبادئ وقيم أساسية قابلة للتطبيق والتفسير في سياقات متعددة. لذلك، فهي تستجيب للمستجدات ‏والتحديات التي ‏تواجه المجتمعات المسلمة في كل الأزمان.‏

وبناء على أن وظيفة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كوظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلك)، وأنهم حجج الله على الناس وخلفاءه في الأرض، وكونهم يحملون المعرفة ‏الكاملة والحكمة الإلهية لتوجيه الناس في جميع جوانب الحياة.‏ فهم (عليهم السلام) قادرون على التأقلم مع التغيرات والتحديات التي تواجه المجتمعات المسلمة، وتوجيه المسلمين بناءً على متطلبات كل العصر، وما يُنقل عنهم (عليهم السلام) من أحكام وتوجيهات لا تُعدُّ وجهات نظر، بل هي توجيهات إلهية وتعالم نبوية.

والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.