مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

معجزةُ خلق الطير من الطين في القرآن والإنجيل

تفاصيل المنشور

السؤال

يعترض علينا البعض بأن معجزة نبي الله عيسى بن مريم ـ وهي أنه صنع من الطينِ طيرًا ـ غير ثابتةٍ في الأناجيلِ، وهي ليست موجودة إلا في القرآنِ.

السائل

الشيخ مالك الإبراهيمي

تفاصيل المنشور

السؤال

يعترض علينا البعض بأن معجزة نبي الله عيسى بن مريم ـ وهي أنه صنع من الطينِ طيرًا ـ غير ثابتةٍ في الأناجيلِ، وهي ليست موجودة إلا في القرآنِ.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..
هذه محاولةٌ بائسة من معترضٍ يتذاكى موهمًا نفسه إثبات أن الأناجيلَ مصدرُ القرآن الكريم، كما هي دعواهم المعروفة ـ التي بان خطلها، واتضح وهنها ـ بأن ما في القرآن مقتبس من الكتب السماوية السابقة عليه، ففي حال أثبت المسلمُ الأمرَ الذي يعترض عليه المعترض في القرآن‏، وبيّن أن هذا الأمر موجود أيضًا في الأناجيل على النحو الذي ذُكر في القرآن‏، سيعتقد المعترض أنه قد ثبّت وجهة نظره بأن الأناجيل هي مصدر القرآن‏، وفي حالة عدم وجود ذلك الأمر في الأناجيل مع وجوده في القرآن، يظن المعترض أنه قد أثبت ‏بذلك أن القرآن قد جاء بشيء جديد، لم يكن موجودًا في الكتب السماوية السابقة عليه، مما يظهر طابعه الأسطوري.. وجميع ذلك محضُ وهم وشطر جهل وتضليل، ليس غير.
وكيفما كان، فهذا الاعتراض الضحل لا يُنقص من عظمة القرآن الكريم في أنه معجزة بذاتها، وبالمقابل، لا يُضفي هذا الاعتراض أيّ جوانب إضافية من الإعجاز على القرآن الكريم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وعلاوةً على ذلك، فإن تحدي القرآن لكل معترض – وجد أو سيوجد مستقبلًا – لا يزال قائمًا أمام جميع أهل الدنيا، على رغم التقدم العلمي الهائل الذي تحقق حتى الآن، وسيبقى هذا التحدي قائمًا حتى قيام يوم الدين.
مضافًا إلى كون القرآن المعجزَ الخالد بتحديه القائم إلى قيام يوم الدين، فإن مصدر جميع الكتب السماوية – التوراة والإنجيل والقرآن – واحد، وهو الله عزّ وجل، قال تعالى: {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ*نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران:2-3]، إلا أن الدلائل التاريخية القطعية تثبت أن نسخ التوراة تعرضت للتحريف مرارًا خلال فترات مختلفة ‏من الأحداث التاريخية، وخصوصًا أثناء هجوم “نبوخذ نصر” على اليهود، حيث فُقدت معظم ‏النسخ، ثم حرِّرتْ لاحقًا من قبل عدد من الأحبار.‏ [يٌنظر: كتاب القاموس المقدس والهدى إلى ‏دين المصطفى]،‏ وقد شهد الله عزَّ وجلَّ بتحريف اليهود للتوراة، وأبان عن هذا في القرآن الكريم‏ بقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ ‏كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}‏[الأنعام:91]. ‏
كما يوثِّق التاريخ أن الأناجيل الأربعة كُتبت بعد زمنٍ من وفاة المسيح (عليه ‏السلام)، وهذا يشير إلى عدم وجود أثرٍ ملموس للإنجيل الأصلي الذي نزل على أنه كتاب سماوي على ‏عيسى (عليه السلام).. [المصدر السابق].‏
كل هذا بخلاف القرآن الكريم، فهو خاتمة كتب السماء، وقد تولَّى الله سبحانه حِفْظَه، ولم يكِل أمرَ حِفظه إلى أحدٍ مِن البشر؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ‏[الحجر:9].
وبعدما أصبح معلومًا أنّ مصدر الكتب السماوية – التوراة والإنجيل والقرآن – هو الله عزّ وجل، وتبّين أن التوراة والإنجيل قد تعرضا للتحريف والتزوير، الأمر الذي أكده القرآن الكريم، ودعمته الحقائق التاريخية القطعية، تبرز واقعية أن القرآن الكريم قد حظي بحفظٍ إلهيٍّ مطلق. وفي مقابل ذلك، يظل تحدي القرآن قائمًا حتى قيام يوم الدين.
وبناء على ما تقدم، نجيب عن الاعتراض (أن معجزة نبي الله عيسى ـ وهي أنه صَنع من الطينِ طيرًا ـ غير ثابتةٍ في الأناجيلِ، ‏وهي ليست موجودة إلا في القرآنِ)، فنقول:
قد ذُكرت معجزة نبي الله عيسى (عليه السلام) وهي خلقه “من الطين كهيأة الطير” في موضعين من القرآن الكريم، في الأول قال تعالى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله} [آل عمران:49]، وفي الثاني قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة:110].
وذُكر نظيرها في “إنجيلِ الطفولةِ” لتوما الإسرائيلي، وذلك في الإصحاح الثاني في الأعداد الآتية:‏
‏(1) عندما كان الصبي يسوع في الخامسة من عمره، كان يلعب في غدير ماء، ويقوم بجمع الماء في ‏حُفَر، ثم يتمتم بكلمات، فينضب الماء من الحفر.‏
‏(2) وفي يوم سبتٍ صَنع من طمى ناعم كهيأة الطير، اثني عشر عصفورًا، بحضرة أطفال كانوا ‏يلعبون معه.‏
‏(3) وبعدما تم خلقهم، في لعبته هذه، في يوم السبت، رآه إنسان. وذهب ليخبر أباه يوسف قائلًا: ‏انظر إلى صبيك. إنه كَسَرَ حُرمة السبت، فقد عمل من الطين اثني عشر عصفورًا، وهو الآن واقف ‏في غدير ماء.‏
‏(4) فحضر يوسف إلى المكان، ولما رأى ذلك، صرخ في وجهه قائلًا: لماذا تفعل في يوم السبت ما ‏لا يحلّ لك أن تفعله؟ فلم يلتفت إليه، وصفّق بيديه، وصاح على الطير: أن طيروا، فأخذت ‏العصافير في الطيران رويدًا رويدًا. وهي تزقزق.‏
‏(5) فاندهش اليهود مما رأوا، وانطلقوا وأخبروا كهنتهم بما فعله يسوع. [إنجيلِ الطفولةِ، لتوما ‏الإسرائيلي، الإصحاح الثاني، ص30–31، ترجمة أحمد السقا].‏
ومسألة ما إذا كان هذا الإنجيل (إنجيل الطفولة) مُعترفًا به أو غير مُعترف به، ليست لها أهمية بالنسبة لنا، ما يهمنا بنحو أساس هو إثبات وجود تلك المعجزة في أحد الأناجيل، هذا، مع الالتفات إلى أنه قبل مجمع نيقية، كان هناك عدد كبير من الأناجيل، حيث بلغ عددها تقريبًا المائة إنجيل، ومن بينها اختيرت الأربعة الحالية التي بين أيدينا، وهي التي لم تتعرض لذكر تلك المعجزة، والسبب كما يعزوه كاتب إنجيل يوحنا في آخر إنجيله الإصحاح 20 عدد 30: «وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ ‏بِاسْمِهِ».‏
فقد بين يوحنا أن الأناجيل لم تذكر كل مراحلِ حياةِ المسيحِ (عليه السلام)، فلم تتكلم عن كل معجزاته، وبيّن سببَ كتابتِه لإنجيله قائلًا: «كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا ‏آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ».
ثم قال يوحنا في الإصحاحِ 21 عدد 25: «وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً ‏وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ».‏
وهذا النص يصرح بحقيقة ما أشرنا إليه، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}.
والحمد لله أوّلًا وآخراً، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.