السائل
أبو دُجانة المغربي
الرافضةُ يجيزون التلبية لغير الله تعالى بصُراخهم وصِياحهم على الأموات بـ (لبيكَ يا حسين، لبيكَ يا علي، لبيكِ يا زهراء)، والتلبيةُ لا تجوز للأموات، فضلًا عن الأحياء كتابًا وسُنّةً، وهي من مختصّات ربِّ العزة جلّ وعلا، فإنْ قلنا: إنهم كفّارٌ قالوا ديدنُكم التكفير، وإنْ سكتنا عنهم عاثوا بعقائدِ المسلمين فسادًا، كهذه وأمثالها، وقد سُئل الشيخ صالح الفوزان عن حكم من قال: لبيكَ يا رسول الله، فأجاب: “لبيك” هذا لله عزّ وجلّ: لبيكَ اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك.
بسمه تعالى وله الحمد، والصلاةُ والسلام على محمدٍ وآله..
يدُ التكفير ما زالت هي اليدَ التي تَكتب من غيرِ حجَّةٍ معتمَدةٍ أو برهانٍ صحيحٍ، غايتُها القصوى الطعنُ في عقائد المسلمين عمومًا، والشيعةُ الإماميةُ خصوصًا، فتراهم يضخِّمون الصغير، ويعظِّمون الحقير، ويتشبَّثون بالطُّحلُب، فمِثلُ هذه الكتابات الدِّعائية السخيفة والتشهيرية، أجاب عنها علماؤهم أنفسُهم بالجواز، وبإمكانِ أيِّ شخصٍ مهما كان مستوى وعيِه وثقافته أنْ يعثر عليها بيُسرٍ وسهولة في مواقع الإفتاء السَّلَفية الرسمية عبر الأنترنت.
فقد أجابت لجنةُ الإفتاء السَّلَفية في موقعِ (إسلام ويب) عن حكمِ مَن يقول: لبيكَ يا فلان، لبيكَ يا أقصى، وما شابَه ذلك من القول، أجابتْ بالآتي: ((من جازتْ إجابةُ ندائه وطاعته فلا حرَج في مخاطبته بهذه الكلمة (لبيك) … وقد بوّب البخاريّ في صحيحه بابَ (من أجاب بلبيك وسعديك) وأسند تحته حديثَ معاذٍ، قال: “أنا رديفُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معاذ! قلت: لبيك وسعديك..”.قال ابن بطال في (شرح صحيح البخاريّ): ((قال ابن الأنباري: معنى قوله: (لبيك) أنا مقيمٌ على طاعتك، مِن قولهم: لبَّ فلانٌ بالمكان وألبَّ به، إذا أقام به، ومعنى (سعدَيك) من الإسعاد والمتابعة. وقال غيرُه: معنى (لبيك) أيْ: إجابةً بعد إجابةٍ، ومعنى (سعديك): إسعادًا لك بعد إسعادٍ. قال المهلّب: والإجابةُ بنعم، وكلِّ ما يُفهم منه الإجابة كافٍ، ولكنّ إجابة السيد والتشريف بالتلبية والإرحاب والإسعاد أفضلُ. اهـ)).
وقال النووي في (المجموع) وفي (الأذكار): يستحب إجابة من ناداك بلبيك، وأنْ يقول للوارد عليه: مرحبًا أو نحوه. وأنْ يقول لمن أحسن إليه أو فعل خيرًا: حفظك الله أو جزاك الله خيرًا ونحوه، ولا بأس بقوله لرجلٍ جليلٍ في عِلمٍ أو صلاح ونحوه: جعلني الله فداك.
ودلائلُ هذا كلِّه في الحديث الصحيح مشهورٌ. اهـ.وقال المليباري في (فتح المعين): ((يُسنُّ إجابةُ الداعي بلبيك. اهـ. فقال الدمياطي في شرحه (إعانة الطالبين): بأنْ يقول له: لبيك، فقط، أو لبيك وسعديك)). [رقم الفتوى: 158713].كما أجاب الشيخ السلَفي سليمان بن عبد الله الماجد على سؤالٍ وُجِّه إليه في موقعه الرسميّ، جاء فيه: ((يقول بعض الناس: إنه لا يجوز قولُ: لبَّي قلبك، …؛ لأن التلبية لله سبحانه وتعالى فقط؟)).
فأجاب: ((الحمد لله، أما بعدُ.. لا حرج في قول (لبيك) لغير الله تعالى؛ لأنّ معناها: أجبتُك، وقد ثبتَ في الأحاديث الصحيحة أنّ الصحابة كانوا يجيبون النبيَّ صلى الله عليه وسلم بقول: (لبيك). والله أعلم)). [فتوى رقم: 19610].والتَّلْبِيَة لغةً، إجابةُ المنادي، وتُطْلَقُ على الإقامَةِ على الطَّاعَةِ. [لسان العرب، لابن منظور، ج1، ص730].وقال ابنُ فارس: ((اللام والباء أصلٌ يدلُّ على لزومٍ وثباتٍ، وعلى خلوصٍ وجودةٍ). [معجم مقاييس اللغة، ج5، ص199].
وجاء عن ابن الجوزي في معنى (لبيك) ثلاثةُ أقوال، فقالّ: ((أحدها: أن أصل التلبية الإقامة بالمكان، يقال: ألبَبْت بالمكان: إذا أقمت به، ولببْت، لغتان، ثم قلبوا الباء الثانية إلى الياء استثقالًا، كما قالوا: تظنَّيْت، فكأنّ قوله: لبيك. أيْ أنا عندك، وأنا مقيمٌ معك، وقد أجبتُك. ثم بنَوه للتوكيد، فكان المعنى: أقمتُ عندك إقامةً بعد إقامة، وإجابةً بعد إجابة. حكاه أبو عبيد عن الخليل.والثاني: أنه بمعنى اتجاهي إليك، مأخوذٌ من قولهم: داري تلبُّ دارك: أي تواجهُها.والثالث: أنه بمعنى محبّتي لك، مأخوذٌ من قولهم: امرأةٌ لبّةٌ إذا كانتْ مُحِبّةً لولدها، عاطفةً عليه)) [كشف المشكل، لابن الجوزي، ج1، ص205].
وقال عطية بن محمد سالم – وهو من شيوخ الوهابية – في عبارةٍ صريحةٍ: ((إذا ناداك إنسانٌ فقلتَ: لبيك. معنى ذلك: أنا هاهنا وتحت أمرك، أجبتُك في دعائك، وممتثلٌ لأوامرك، فالحاجّ حينما يشرع في نسُكه يعلن قائلًا: لبيك، إنما هي إجابةٌ لذاك النداء الذي بلغه عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام)). [شرح بلوغ المرام، ج7، ص160].والتلبية في الاصطلاح الشرعيّ بالمعنى اللغوي نفسه، أيْ أجبتك إجابةً بعد إجابة، ولم يذكروا لها معنى خاصًّا ولم يدَّعِ أحدٌ اختصاص إطلاقها على الله (عز وجل) أبدًا، بل حتى مع استعمالها في الحجّ وقول لبيك الله لبيك، فإنهم يفسِّرونها على أنها يُقصَد منها إجابة المخلوق وهو نداء إبراهيم (ع) للناس بالحج.قال في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 / 42 (قوله: لبيك) معناه إجابة بعد إجابة، أيْ أجبتك للحج حين أذّن إبراهيمُ به في الناس، كما أجبتُك أولًا حين خاطبتَ الأرواح بـ”أ لستُ بربِّكم”. كذا قيل. والأحسن أنّ معناه امتثالًا لك بعد امتثالٍ في كل ما أمرتَني به.فتبيّن مما تقدم أنّ التلبية لا يختص استعمالُها بإجابة الخالق، ويدلّ عليه أيضًا استعمالُ الصحابة لهذه الكلمة في ما بينهم بكلِّ أريَحيّة ومن دون أيِّ نكيرٍ من أحدٍ ولا اتهام.فقد روى البخاري في صحيحه (1/41): عن أنس بن مالك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعاذٌ رديفُه على الرحل قال: يا معاذ بن جبل؟ قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ؟ قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثًا…وفي البخاري أيضًا (1 / 121) ومسلم (5 / 30) قال: …ونادى: يا كعب بن مالك؟ قال: لبيك يا رسول الله.وفيه أيضًا (5 / 105). قال: يا معشر الأنصار؟ قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك.وفي البخاريّ (5 / 106) ومسلم (3 / 106): فأدبروا عنه حتى بقيَ وحده، فنادى يومئذٍ نداءَين لم يخلط بينهما، التفتَ عن يمينه فقال: يا معشر الأنصار؟ قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشِرْ، نحن معك. ثم التفت عن يساره، فقال: يا معشر الأنصار؟ قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشرْ، نحن معك. وهو على بغلةٍ بيضاء، فنزل، فقال: أنا عبد الله ورسولُه، فانهزم المشركون، فأصاب يومئذٍ غنائمَ كثيرة، فقسّم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فقالتِ الأنصار: إذا كانتْ شديدة، فنحن نُدعى، ويُعطى الغنيمةَ غيرُنا….
وفي البخاري (7 / 177) ومسلم (3 / 75): قال أبو ذر: كنتُ أمشي مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في حرّة المدينة فاستقبلَنا أحدٌ، فقال: يا أبا ذر؟ قلت: لبيك يا رسول الله….
وفي البخاري (7/179): ثم مرّ بي أبو القاسم (صلى الله عليه وسلم) فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: أبا هر؟ قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق، ومضى فتبعتُه… قال: أبا هر؟ قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق إلى أهل الصُّفّة فادعُهم لي… قال: يا أبا هر؟ قلت: لبيك يا رسول الله. قال: خذْ فأعطِهم… فنظر إليّ فتبسّم، فقال: أبا هر؟ قلت: لبيك يا رسول الله. قال: بقيتُ أنا وأنت. قلت: صدقتَ يا رسول الله.
وفي صحيح مسلم (5 / 67): قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أيْ عباس، نادِ أصحاب السمُرة. فقال عباس: فقلتُ بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة. قال: فو الله لكأنْ عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك…فهذا كله بالنسبة إلى نداء الحي وإجابته بلبيك.
وأما إجابة الغائب بقولنا: لبيك. فقد ورد ذلك عن أحد الصحابة، وهو أبو قرفاصة، كما في الآحاد والمثاني (2 / 82): أنّ أبا قرفاصة رضي الله تعالى عنه كان له ابنٌ يقال له عياض، فكان أبو قرفاصة إذا انتبه لصلاة الغداة نادى: يا عياض، الصلاة. فيقول: لبيك لبيك يا أبة… وأن أبا قرفاصة كان إذا انتبه، وهو بالشام نادى كما كان يصنع: يا عياض، الصلاة الصلاة. وهو بأرض الروم، فإذا انتبه يقول: يا عياض. فيقول عياض: يا أبة لبيك لبيك.وجاء في طبقات المحدِّثين (3 / 435): كانت لأبي قرفاصة صحبة، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد كساه برنُسًا، وكان الناس يأتونه فيدعو لهم، ويبارك فيهم، فيعرف البركة فيهم، وكان لأبي قرفاصة ابنٌ في بلاد الروم غازيًا، وكان أبو قرفاصة إذا أصبح في السحر بعسقلان نادى بأعلى صوته: يا قرفاصة، الصلاة. فيقول قرفاصة من بلاد الروم: لبيك يا أبتاه. فيقول أصحابه: ويحك لمن تنادي؟ فيقول: لأبي ورب الكعبة، يوقظني للصلاة.أما الكلام مع الميت ومخاطبته بقول “لبيك” ومخاطبة الغائب بذلك فهذا من المجاز – لأن “لبيك” تستعمل لإجابة الدعوة والنداء في الأصل – فنحن كما نجيب دعوة نبيِّ الله إبراهيم ونداءه لنا بالحج لله تعالى بعد آلاف السنين، وكما يجيب قرفاصةُ دعوةَ أبيه ونداءه وهو في بلدٍ آخر، فنحن أيضًا نجيب دعوة رسول الله والزهراء وأمير المؤمنين والحسن والحسين والمهدي صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين مجازًا؛ لأنهم في واقع الحال يدعوننا إلى الالتزام بأوامر الله تعالى وحبِّهم ونصرتهم، فنحن نستجيب لدعوتهم بهذا النداء المفترَض منهم، فلا إشكال قطعًا لغةً أو شرعًا في إجابتهم (ع) وإجابة دعوتهم مجازًا، والله العالم والهادي إلى سواء السبيل.والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.