مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

كيف نفهم: “من عرف نفسه عرف ربّه”؟

تفاصيل المنشور

السؤال

كيف يَعرف الإنسانُ ربَّه بمعرفة نفسه كما أشار مولىٰ الموحِّدين أمير المؤمنين (عليه ‏السّلام) في قوله: “مَن عَرف نفسَه فقد عَرف ربَّه” أو “عجبت لمن يجهل نفسَه كيف يعرف ‏ربّه”؟! ؟

السائل

حسين

تفاصيل المنشور

السؤال

كيف يَعرف الإنسانُ ربَّه بمعرفة نفسه كما أشار مولىٰ الموحِّدين أمير المؤمنين (عليه ‏السّلام) في قوله: “مَن عَرف نفسَه فقد عَرف ربَّه” أو “عجبت لمن يجهل نفسَه كيف يعرف ‏ربّه”؟! ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.

لا ريب أنّ قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن عَرف نفسه فقد عَرف ربّه»، أو قوله (عليه السلام): «عجبتُ لمن يجهل نفسه كيف يَعرف ربّه»، من الكلمات الجامعة، التي وقع تفسيرُها على وجوهٍ متعدِّدة في كلمات العلماء، والمظنون أنَّ المراد بالقول الأول بيان طريق الاستدلال على معرفة الله تعالى بواسطة معرفة النفس، لا العلم بذاته تعالى، فإنّ ذاته المقدّسة لا تقع تحت الإدراك، كما دلّت عليه الآية المباركة: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، ودلّت عليه القواعد العقليّة القطعيّة، من استحالة إدراك اللامتناهي أو المحيط بكلّ شيءٍ بوجودٍ محدود.

وعليه، فالمرادُ من المعرفة هنا هو معرفة ربوبيّته تعالى، وما يليق بساحة قدسه من صفات الكمال، ومعرفة عبوديّة العبد، وضعْفه، وافتقاره إلى الغنيّ المطلق، لا العلم بذاته تعالى، إذ الذات الإلهيّة منزَّهة عن الإدراك.

ووجهُ الدلالة والتحقيق هو أنّ النفس الإنسانيّة متقوِّمة بالفقر والاحتياج، لا تملك لنفسها حياةً ولا موتًا ولا نشورًا، بل هي محتاجةٌ في وجودها، محتاجةٌ في دوامها، محتاجةٌ في قواها وإدراكاتها، كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].

فمعرفة النفس بكونها ممكنة الوجود، حادثةٌ، مفتقرةٌ في جميع شؤونها، محتاجةٌ إلى علّةٍ أفاضت عليها الوجود والكمال، تدلّ باللزوم العقليّ على وجود مفيضٍ غنيٍّ قيّوم، هو الله تعالى. وهذه الدلالة على سبيل الملازمة العقليّة بين الممكن والموجِد، والمعلول وعلّته، والمحتاج ومَن يُغنيه، فإنّ الممكن لا يقوم بذاته، ولا يكتفي بذاته، بل يحتاج إلى ما يفيض عليه الوجود.

فالنفسُ إذن آيةٌ دالّة، ودليلٌ شاهد، لمن تدبّر في ماهيّتها، ووقف على حقيقتها، فإنّه يجد نفسه مركّبةً من قوى متخالفة، وغرائز متفاوتة، وعقول وإدراكات، وإرادات وشهوات، وضعف وجهل، وشوقٍ إلى كمالٍ مطلق، وكلّ ذلك شاهدٌ على أنّ لها موجِدًا حكيمًا، أودعها هذه القوى، وضبطها بهذا النظام.

وقد أشار القرآنُ الكريم إلى هذا الطريق من الاستدلال، في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وفي قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصّلت:53].

فهذه الآيات صريحةٌ في أنّ النفس الإنسانيّة مَجلًى لآياتِ الله عزّ وجل، وميدانٌ لتجلّي آثار الربوبيّة، وعلامةٌ شاهدة على توحيده، فمن تدبّر فيها بإنصافٍ، وجدها آيةً تدلّ على ربّها، ومرشدةً إلى مبدعها، كما تدلّ آثار الصنعة على الصانع، وعلامات الكتابة على الكاتب.

ويتبيَّن من ذلك كلّه أنّ معرفة النفس بما هي مخلوقةٌ ناقصةٌ محتاجة، تنفتح منها المعرفة بربوبيّة الله تعالى، ووحدانيّته، وغناه، وقدرته، وحكمته؛ لأنّ شأن الممكن أنْ يدلّ على الواجب، وشأن الناقص أنْ يشير إلى الكامل، وشأن المحتاج أنْ يُحيل إلى الغنيّ، وهذه قاعدةٌ كلّية في أبواب الدلالة العقليّة.

وهكذا، يكون معنى الحديث الشريف: أنّ مَن عَرف حقيقة نفسِه في وجودها وفقرها وعجزها وحدودها، عَرف باللزوم وجودَ ربّه، وعَرف افتقاره إليه، وعَرف أنّه لا غنى له عن مفيضٍ يمدّه بكلّ ما هو فيه من وجودٍ وكمال، وهو الله تعالى.

وعليه، فقولُ أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن عَرف نفسه فقد عَرف ربّه» ليس دعوةً إلى معرفة الذات الإلهيّة بذاتها، ولا دعوةً إلى معرفةٍ رمزيّة أو مجازيّة، بل هو بيانٌ لطريقٍ عقليٍّ استدلاليّ، يُستكشف به وجود الواجب تعالى وصفاته، من معرفة النفس الإنسانيّة بحدودها ونقصها وفقرها، كما بيّنتْه الآيات الكريمة، وأقرّتْه قواعد الكلام والعقل.

والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.