تفاصيل المنشور
- السائل - الزهراء مولاتي
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 5 مشاهدة
تفاصيل المنشور
يقول بعض الحداثيّين: القَصص القرآنيّ ليس بالضرورة تسجيلًا تاريخيًّا دقيقًا، بل هو رمزيّ يهدف لإيصال المعاني والقِيم الخُلُقيّة الكبرى. والتشبّث بحرفيّة هذه القصص يُقيِّد النصّ القرآنيّ، ويمنعه من مخاطبة الإنسان في كلِّ زمان، بينما الفهم الرمزيّ يمنحُه أفقًا أوسع وقدرة على التجديد والتأويل عبر العصور.. فكيف نردّ عليهم؟ وتقبَّلوا فائق التقدير.
السائل
الزهراء مولاتي
يقول بعض الحداثيّين: القَصص القرآنيّ ليس بالضرورة تسجيلًا تاريخيًّا دقيقًا، بل هو رمزيّ يهدف لإيصال المعاني والقِيم الخُلُقيّة الكبرى. والتشبّث بحرفيّة هذه القصص يُقيِّد النصّ القرآنيّ، ويمنعه من مخاطبة الإنسان في كلِّ زمان، بينما الفهم الرمزيّ يمنحُه أفقًا أوسع وقدرة على التجديد والتأويل عبر العصور.. فكيف نردّ عليهم؟ وتقبَّلوا فائق التقدير.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنّ ما يدّعيه بعضُ المعاصرين، ممّن تأثّر بمناهج الحداثة الغربيّة، من أنّ القَصص القرآنيّ ليس تسجيلًا لوقائع خارجيّة، وإنما هو بناءٌ رمزيٌّ يُقصد منه إيصال المعاني والقِيم دون الإخبار عن أحداثٍ حقيقيّة، هو زعمٌ باطلٌ مردود، لما يشتمل عليه من مخالفة للنصوص المحكَمة، ولما يستلزمُه من مفاسد عقليّة وعقَديّة.. وبيان ذلك في وجوه:
الأول: أن الله تعالى وصف القرآن بأنه بيانٌ وهدى وبلاغٌ ونور، فقال: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [ابراهيم:52]، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]. والبيان يقتضي الوضوح وإفهام المقصود بلا لبسٍ، فإذا جعلتَ الأخبار التي ظاهرها الإخبار عن الوقائع الخارجيّة رموزًا مجازيّة لا تدلّ على تلك الوقائع، بل على معانٍ أخرى لا تُفهَم إلا بتأويلاتٍ خارجة عن اللسان العربي وعن الدلالة العرفيّة، فقد جعلتَ الكتابَ مُسقِطًا لصفة البيان، وهذا خلافُ ما أخبر به الله سبحانه عن كتابه، وخلاف مقتضى الحكمة الإلهيّة التي تقتضي أنْ يكون الخطابُ مفهومًا للناس بحسب مقتضيات لغتهم وفهْمهم.
الثاني: أنّ القرآن الكريم قد بيَّن أنّ هذه الأخبار وقعت في الخارج، وصرّح بأنها قصص حقّ ووقائع غيبيّة أوحاها الله إلى نبيِّه، فقال جلّ شأنه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13]، وقال: {ٰذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [يوسف:102]. فالآيات دالّة بوضوحٍ على أنّ هذه القصص أخبار صادقة عن وقائع وقعتْ، وأنها من الغيب الذي أوحاه الله إلى نبيِّه، فصرْفها عن ظاهرها بلا قرينةٍ قطعيّة خروجٌ عن مقتضى الظهور، وارتكابٌ للتأويل بلا دليلٍ، وهو باطلٌ عند المحقِّقين.
الثالث: أن الإخبار عن وقائعَ لم تقع، مع العلم بعدم وقوعها، إما أنْ يكون صدقًا أو كذبًا، ولا ثالث لهما، والصدقُ هو مطابقة الخبر للواقع، والكذبُ خلافه. فإذا نُسِب إلى الله عزّ وجل أنه أخبر بهذه القصص على أنها وقائع حقيقيّة، وهي ليستْ كذلك، فقد نُسب إليه الكذب – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا – وهو محالٌ؛ لأن الكذب نقصٌ، والنقصُ ممتنعٌ في حقّ الله سبحانه.
وإما أنْ يقال: إنها رمزيّةٌ لا كذبَ فيها.. فيُقال: إنّ الرمز لا يتحقَّق إلا بوجود قرينةٍ صارفةٍ عن إرادة الحقيقة، وإلّا لزم الإيهام والكذب، ولا توجد قرينةٌ لفظية ولا سياقيّة معتبَرة في النصوص القرآنيّة تصرِف هذه الأخبار عن ظاهرها، بل القرائنُ كلُّها مؤكِّدة لإرادة الحقيقة والواقع، فلا يصحّ دعوى الرمزيّة إلا على وجهٍ من التعسُّف والمصادرة على المطلوب.
الرابع: أنّ فتح باب التأويل الرمزيّ بلا دليلٍ، يقتضي جواز تأويل سائر العقائد والأخبار الغيبيّة بالرمز، فيؤول المعاد بالرمزيّة، والجنة والنار بالرمزيّة، والصراط والميزان بالرمزيّة، ولا ينضبط بعدَ هذا حدٌّ للقطعيّات الدينيّة، ويؤول الدين إلى أهواء المتأوِّلين، وهذا إبطٌال لليقينيّات، وإخراجٌ للعقيدة عن كونها معرفة يقينيّة إلى كونها ظنونًا وأوهامًا، وهو عين الهدم للأصول.
الخامس: أن هذه الدعوى لم تصدر عن مسلك أعلام الأمة، ولا عن طريقة أهل البيت (عليهم السلام)، ولا عن سيرتهم في تفسير القرآن، ولا عن أئمة اللغة، بل هي مستوردةٌ من مناهج النقد الغربيّ التي تتعامل مع النصوص المقدّسة تعاملها مع الأدب البشريّ، وهذا المنهج مرفوضٌ جملةً وتفصيلًا، لمخالفته الأصل القطعيّ بأنّ القرآن وحيٌ إلهيٌّ منزَل، له حجِّيَّته الذاتيّة وصدقه الموضوعيّ، ولا يخضع لمناهج القراءة الحداثيّة التي تنكر الحقيقة المطلقة.
ويتحصَّل مما تقدَّم، أنّ دعوى الرمزيّة في القَصص القرآنيّ دعوى باطلةٌ من جهة مخالفتها لظهور النصوص، ومناقضتها لصفة البيان، ولزومها الطعن في الصدق الإلهيّ، واستلزامها التلاعب بالعقيدة، وابتنائها على منهجٍ دخيلٍ غريب.. وعليه، فهي ساقطةٌ في معيار التدقيق العلميّ، مردودةٌ عند العلماء، لا يُصغى إليها، ولا يُتوقَّف عندها.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.