مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

فصل الخطاب في دعاء “اكفياني”

تفاصيل المنشور

الاشكال مُقرر

تقريرُ الإشكال بنحوٍ مختصر، يُلخَّص في أنّ دعاء “يا محمد، يا عليُّ، اكفياني فإنكما كافيان” يُعدّ شِركًا وإثمًا، وأنّ التعلّق به بهذه الطريقة يُمثِّل حالةً هوسيّةً وتحت تأثيرٍ شيطانيّ. وقد استُدلّ على ذلك بعدة آياتٍ تحذِّر من الشرك، كما زُعم أنّ هذا الدعاء يزيح اللهَ عن مقام الألوهيّة، ويُلبِس النبيَّ والإمام صفة “الكافيان” و”الناصران”، في تنافٍ صريحٍ مع آيات التوحيد، مثل: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، وغيرها.

ويُستشهَد أيضًا بأنّ الشرك لا يُغفَر ما لم يُتَب منه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وأنّ الدعاء المذكور لم يرِد في كتاب “مفاتيح نوين” لآية الله مكارم الشيرازي، ما يُفهَم منه التبرّؤ منه أو رفضه، مع الإشارة إلى أنّ الدعاء لا سند له أصلًا، ولا تُعرف سلسلةُ رواته أو خلفيّة مَن نقَله. وقد رُفضتْ أيضًا الروايات التي تزعم أنّ الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه) ظهر لبعض الخُلّص من شيعته، وعلّمهم أدعية مخصوصة، بدعوى أنّ ذلك يُخالف فلسفة الغَيبة الكبرى، كما استُدل بآيات مِن القرآن الكريم على أنّ الهداية والضلال بيد الله وحده.

المستشكل

مجهول

تفاصيل المنشور

الاشكال مُقرر

تقريرُ الإشكال بنحوٍ مختصر، يُلخَّص في أنّ دعاء “يا محمد، يا عليُّ، اكفياني فإنكما كافيان” يُعدّ شِركًا وإثمًا، وأنّ التعلّق به بهذه الطريقة يُمثِّل حالةً هوسيّةً وتحت تأثيرٍ شيطانيّ. وقد استُدلّ على ذلك بعدة آياتٍ تحذِّر من الشرك، كما زُعم أنّ هذا الدعاء يزيح اللهَ عن مقام الألوهيّة، ويُلبِس النبيَّ والإمام صفة “الكافيان” و”الناصران”، في تنافٍ صريحٍ مع آيات التوحيد، مثل: ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، وغيرها.

ويُستشهَد أيضًا بأنّ الشرك لا يُغفَر ما لم يُتَب منه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وأنّ الدعاء المذكور لم يرِد في كتاب “مفاتيح نوين” لآية الله مكارم الشيرازي، ما يُفهَم منه التبرّؤ منه أو رفضه، مع الإشارة إلى أنّ الدعاء لا سند له أصلًا، ولا تُعرف سلسلةُ رواته أو خلفيّة مَن نقَله. وقد رُفضتْ أيضًا الروايات التي تزعم أنّ الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه) ظهر لبعض الخُلّص من شيعته، وعلّمهم أدعية مخصوصة، بدعوى أنّ ذلك يُخالف فلسفة الغَيبة الكبرى، كما استُدل بآيات مِن القرآن الكريم على أنّ الهداية والضلال بيد الله وحده.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
قد تقرَّر في محلّه، وأطبَقتْ عليه كلمة المحقّقين من علماء الإسلام، أنّ التوحيد في العبادة لا يتحقّق إلّا باجتماع ركنين لا ثالث لهما:
1 – خضوع القلب. أي التذلُّل والانقياد التامّ.‏
2 – الاعتقاد بالأُلوهيّة. أي الإيمان بأنّ مَن يُتوجَّه إليه بالعبادة هو إلهٌ يملك الضرّ والنفع بذاته.‏
ومن هنا لا يُسمّى أيُّ نوعٍ من الخضوع عبادةً، إلّا إذا اجتمع فيه هذان الركنان معًا.‏
ولهذا فإنّ خضوع الابن لوالده، أو العبد لسيِّده، أو الجندي لقائده، لا يُعدُّ عبادة؛ لأنه خضوعٌ خالٍ ‏من الاعتقاد بالأُلوهيّة. وكذلك لا يُعدّ اعترافُ إبليس بوجود الله عبادةً؛ لأنه كان خضوعًا بلا ‏طاعةٍ، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].‏
ومن هذا المنطلَق، فإنّ تحقيقَ التوحيد في العبادة يتطلَّب أنْ يكون العبدُ خاضعًا لله سبحانه بقلبه، ‏مؤمنًا بقدرته المطلَقة، مع اعتقاده بأنّ كل ما سواه محتاجٌ إليه في وجوده واستمراره.‏
ومما تقدَّم يُعلم أنّ العبادة ليست مجرَّد التوسُّل والخضوع، بل لا بدّ من الاعتقاد بالأُلوهيّة المستقلّة لمن ‏يُعبَد، ولا يوجد أحدٌ من المسلمين يعتقد بأُلوهيّة الأنبياء أو الأولياء، أو باستقلالهم في التصرُّف ‏عن الله عزّ وجل، وإنما التوسُّل بهم والخضوع لهم هو من باب التقرُّب إلى الله تعالى بجاهِهم ومقامهم عنده.‏
ومن هذا الأصل المقطوع به، يُعلم أنّ الطلب من الأنبياء والأولياء، لا يَدخل في العبادة، ولا يُعدّ من الشرك، لعدم توفُّر هذين الركنين فيه، فإنّ المؤمن إذا توجّه إلى النبيِّ أو الإمام بطلبٍ، لم يكن خضوعُه قائمًا على تأليه المخاطب، ولا هو يرى فيه قدرةً ذاتيّة على النفع أو الضرّ، بل يراه عبدًا مقرّبًا، جعله الله سببًا من أسباب رحمته، ومظهرًا من مظاهر قدرته، فيخاطبه على نحو الطوليّة في التأثير، لا الاستقلال في الفعل.
وعليه، فإنّ مَن قال: “يا محمدُ، يا عليّ، اكفياني، فإنكما كافيان”، لا يمكن أنْ يُقال بأنه عبَدَ غير الله، أو أشرك به، ما دام خضوعُه لم ينبنِ على اعتقادٍ بألوهيّة النبيّ أو الإمام، ولا على توهُّم أنهما يملكان الضرّ والنفع من أنفسهما، وإنما يقصد بذلك التوسّل بمن أذن اللهُ له بالكفاية، وأكرمه بأنْ يكون مجرى الفيض، ومحلّ الرحمة، ومفتاح النجاة، وهو خضوعٌ طوليّ لا عرضيّ.
وهذا المعنى يُدرِكه العقلاء بوضوحٍ، فإنهم لا يرَون في قول المريض للطبيب: “اشفني”، أنه اتّخذه إلهًا، ولا في قول الطالب لأستاذه: “فهِّمْني”، عبادةً له، ولا في قول الضعيف للقويّ: “احمِني”، خضوعًا قائمًا على التأليه؛ لأن العُرف والعقل لا يفهمان من مثل هذه التوجُّهات سوى الوساطة بالأسباب، لا الربوبيّة بالأعيان، ولا الاستقلال في الفعل، فكيف يُستشكل إذن في أنْ يُقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام): “اكفياني”، وهما أَولى بأنْ يُستغاث بهما؛ لأن الله سبحانه جعلهما سببين للهداية، وأذِن بالتوسُّل بهما.
والعاقل إذا تأمّل عرَف الفرق الواضح بين مَن يقول: “يا محمد، يا علي، اكفياني بما أقدَركما الله عليه”، وبين مَن يقول: “أنتما آلهةٌ تملكان النفع والضرّ بذاتكما”، والأول هو لسان حال الشيعة، والثاني كفرٌ لم يقلْه أحدٌ منهم.
ولو فُرِض أنّ كلَّ مَن قال “اكفني” أو “انصرني” قد عبَد من قال له ذلك، للزم تكفير مَن قال للطبيب: “اشفني”، أو للقويّ: “احمني”، أو للغني: “اقضِ حاجتي”، وهذا ما لا يقول به عاقل، فإنّ العقل والعرف متّفقان على أنّ الخضوع متى ما كان خلْوًا من الاعتقاد بالأُلوهيّة المستقلّة، لم يكن عبادةً، ولا هو مما يُنافي التوحيد.
وإذ قد استقام هذا الأصل المحكَم، فلا يبقى مجالٌ لما أورده المعترض من احتجاجه بالآيات القرآنيّة، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، و{وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} [النساء:45]، و{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، و{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38]، فإنّ هذه الآيات المباركة إنما هيَ في مقام نفي العبادة الحقّة، والولاية الذاتيّة، والكفاية المطلقة عن غير الله سبحانه، لا في مقام نفي الوسائل التي شرّع اللهُ التوسُّل بها، بل قد دلّت الآياتُ الأخرى على جواز الاستشفاع بالرسُل، والتقرّب إلى الله بأوليائه، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، ومعلومٌ أنّ مجيئهم إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) واستغفاره لهم، لم يكن شركًا، بل كان طريقًا للتوبة، ووسيلةً للقبول، وهو في صميم التوحيد لا في ضدِّه.
وأمّا ما ذُكِر مِن أنّ سماحة آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي لم يُدرِج هذا الدعاء في كتابه ‏‏”مفاتيح نوين”، فهو كلامٌ لا وزْن له في سوق التحقيق، ولا حجِّية فيه في ميزان أهل النظر، بل هو ‏أشبه شيءٍ بـ”من لا حجّة له، فتعلّق بالمحتمَلات”؛َ إذ لا ملازمة بين عدم الإدراج وبين بطلان الدعاء ‏أو ردّه. فهل صارت كتب الأدعية الشخصيّة معيارًا للتوحيد والشرك؟! وهل إذا خلا كتابٌ من دعاءٍ ‏بات ذلك حجّةً على قدحه وسقوطه؟!‏
فليُتأمّل في هذا المنطق الأعوج: أ يَتوهَّم المعترضُ أنّ ما لم يُذكر في كتاب “مفاتيح نوين” يسقط عن ‏الرجحان؟! فإنْ كان كذلك لزمه أنْ يُبطِل أدعيةً أخرى متواترة شهيرة لم تُدرَج في ذلك الكتاب، بل ‏لم تُدرَج في كتب متأخِّرة أخرى أيضًا! فهل يَبطُل دعاء التوسُّل أو دعاء الندبة أو دعاء العهد لمجرَّد ‏غيابها عن فهرس كتاب معيَّن؟! أ هذا هو المقياس الجديد في معرفة المقبول والمردود؟!‏
ثمّ على فرض صحة هذا النقل فإنّ الشيخ المكارم دام ظله لم يصرّح في شيءٍ من ‏كتبه أو فتاواه بتحريم الدعاء، ولا بوصفه شركًا، ولا بإنكار مضمونه، بل لم يُنقَل عنه حرفٌ واحدٌ ‏في هذا الاتّجاه، وإنما هي مجرّد دعوى منقولة على سبيل “يُقال” التي لا تُنصَب بها بيّنة، ولا تُهدَم ‏بها عقيدة، ومن العجز أنْ يُبنى التكفير أو الشرك على قاعدة “يُقال” و”يُظن” و”يُحتمل”.‏
وأما ما ذُكر من رفض ما نُقل عن الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه) من أدعيةٍ علّمها لبعض خواصّ أصحابه، بحجّة أنها “تخالف فلسفة الغَيبة الكبرى”، فمثل هذا القول لا يستحقُّ أنْ يُعدّ من الشبُهات أصلًا، فضلًا عن أنْ يُرَدّ عليه؛ إذ هو أوهى من أنْ يُجاب، وأسخف مِن أنْ يُناقش، بل هو ظنٌّ ساذجٌ لا يصدر ممن له أدنى معرفةٍ بمقام الإمامة، ولا بمباني الطائفة، ولا بكلمات أعلامها.
وقديمًا قيل: “أرِحْ سمعك من لغوٍ لا يليق بالعقول، فإنّ من الجهل أنْ تنشغل بالردّ على من لا يفقه ما يطعن فيه”.
وأما دعوى أنّ الدعاء المذكور لا سنَد له، فإنها مردودةٌ من أصلها؛ لأن الأدعية ـ كما تقرّر عند علمائنا ـ لا يُشترط في العمل بها توفُّر الإسناد الصحيح، بل تجري عليها قاعدة التسامح في أدلة السُّنن، التي نصّ عليها فقهاء الطائفة، وهي قاعدةٌ مفادها: أنّ ما يعتبر في ثبوت الحجيّة للخبر من وثاقة الراوي أو احتفاف الخبر بما يوجب الوثوق بصدوره غير معتبَر في الأخبار المتضمّنة للمستحبَّات، وكذلك المكروهات ـ على قول ـ ، فالمراد من التسامُح هو التساهل وعدم متابعة السنَد للتعرّف على وثاقة الواقعين في سلسلته أو عدم وثاقتهم، وكذلك التساهل في تحصيل القرائن الموجِبة للوثوق.
فليُعلم إذن أنّ دعاء “يا محمد يا علي اكفياني” لا يتنافى ومقتضى التوحيد الحقِّ، ولا يعارض نصوص الكتاب والسُّنة، ولا يُطرَح لعدم ثبوت السَّند، إذ هو جارٍ على قاعدة التسامح في أدلة السُّنن، ومندرج في باب التوسُّل المشروع، الذي دلّت عليه الروايات الشريفة، ولا يَقدح فيه عقلٌ سليم ولا نقلٌ مستقيم، ولا يَخرج به المؤمن عن صراط التوحيد، ولا عن منهج أهل البيت (عليهم السلام)، بل هو دعاءٌ متينٌ في مبناه، بيِّنٌ في مسراه.
وبعد الذي تَقَدَّمَ من البيان، فإنّ الواجب على مَن رمى هذا الدعاء بالشرك أنْ يأتي ببرهانٍ يُثبِت دعواه، ودليلٍ قطعيّ يُخرُج به القائلَ بـ”يا محمد، يا علي، اكفياني” عن دائرة التوحيد، فإنّ الكلام إذا كان بهذه المثابة من الخطورة، متعلّقًا بمقام العقيدة وأصل الدين، لم يُقبل فيه الظنّ ولا الشُّبهة، بل يجب فيه اليقين والبيّنة. فأين وجوه الدلالة القطعيّة على أنّ هذا القول ـ مع خلوّه من اعتقاد الربوبيّة أو الاستقلال ـ يُعدُّ شركًا بالله العظيم؟! وأيّ عقلٍ أو نقلٍ صريحٍ دلّ على أنّ طلب المعونة من الوسيلة المجعولة كطلبِها من الخالق المعبود بذاته؟!
بل مقتضى الإنصاف أنْ يُقال: إنّ مَن خاض في هذا الباب بلا بيّنةٍ ولا علم، فقد عرّض نفسه للإثم، واتّهم المؤمنين بغير حجّةٍ، وقد قال مولانا الصادق (عليه السلام): ((ملعونٌ ملعون من رمى مؤمنًا بكُفر، ومَن رمى مؤمنًا بكفرٍ فهو كقاتله)) [وسائل الشيعة، ج١٦، ص٢٨٠].
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.