السائل = الشيخ حسين آل حمدي
السؤال = السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. هبط جبرئيل عليه السلام، فقال: يا محمد، العليّ الأعلى يقرئك السلام، وهو يأمرك أنْ تتأهّب لتحيّته وتحفته، قال النبي صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل، وما تحفة ربِّ العالمين؟ وما تحيّته؟ إلخ.. ما السرُّ الإلهيّ بتسمية السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بتحفة ربِّ العالمين كما ورد في الرواية الشريفة والزيارة المنيفة.. ما معنى ذلك؟ ما السرُّ من وراء هذا التأهُّب لحمل التحفة السماوية؟ ما سرُّ أسرار كلمة: “فاطمة تحفة ربّها وتفاحة جنته”؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
في بادئ الأمر يتعيَّن علينا توضيح معاني المفردتين، (التحفة، والتحية)، لكي يتضح لنا المعنى والغرض من الحديث الوارد في سياق السؤال، بعد نقله من مصدره.
روي أنّه بينما ((كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالسًا بالأبطح، إذ هبط عليه جبرائيل عليه السلام، فناداه: يا محمّد، العليّ الأعلى يقرئك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة. وأخبرها النبي بالأمر الإلهيّ، وأقام صلى الله عليه وآله وسلم أربعين صباحًا يصوم نهارًا، ويقوم ليلاً. فلما كان تمام الأربعين، هبط جبرائيل، فقال: يا محمد، العليّ الأعلى يقرئك السلام، وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيّته وتحفته. فبينما هو صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، إذ هبط ميكائيل عليه السلام، ومعه طبق مغطّى بمنديلِ سندس، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأقبل جبرائيل عليه السلام، وقال: يا محمد، يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام. فأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شِبَعًا، وشرب من الماء ريًّا، ثم قام ليصلّي، فأقبل جبرائيل، وقال: فإن الله عزَّ وجلَّ آلى على نفسه أنْ يخلق من صلبك في هذه الليلة ذريّة طيّبة)) [بحار الأنوار، ج16، ص79-80؛ ميزان الاعتدال، للذهبي، ج3، ص540؛ تاريخ بغداد، للخطيب، ج5، ص87؛ ذخائر العقبى، لمحب الدين الطبري، ص54-55، أعلام الهداية، ص57-58].
“التحفة” في اللغة تعني الطّرفة من الفاكهة وغيرها من الرياحين. وتأتي بمعنى: ما أتحفتَ به الرجل من البرّ واللطف والنعص، وكذلك التحَفة، بفتح الحاء، والجمع تُحَف، وقد أتحفه بها واتَّحفه. [يُنظر: لسان العرب، لابن منظور، ج9، ص17].
((والجمع التحَف، ثم استُعملت في غير الفاكهة من الألطاف، والنعص، قال الأزهري: أصل تحفة وحفة، فأبدلت الواو تاء، فيكون على هذا من حرف الواو…)) [يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، ج1، ص182].
وأَتْحَفَهُ بالشيءِ، أَهداه إليه أو أَعطاه إياه. [المنجد في اللغة، ص59].
واَتْحَفَ: أَعْطى تُحْفة، أَهْدى، وأَعطى: أَتْحَفَه هَديَّةً لطيفة، وأَتْحَفَنا بأَبْيات من الشِّعر. [المصدر نفسه، ص144].
واتّحَفَكَ من أتفحك، كذا في الأساس بلا تفسير، ولعلَّ معنى أتفحك أعطاك تفاحة. [أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، ص324].
أما التحيّة، فتطلق على كلّ قول أو فعل يُؤْتَى به بقصد التَّكريم. ومِن معانيها: التعظيم، والتكريم، والفرح.
ونُسب إلى مالك إدخال “الهدية” في معنى “التحية” وحكمها، ولعل العلّة في ذلك ما في الهدية من معنى “المحبة”، وبها يتحقّق الأمان والإيناس… وقد ذهب ابن عُيينة: إلى أوسع مما ذهب إليه مالك؛ فجعل التحيّة كلّ معروف يُبذل. [يُنظر: التفسير والبيان لأحكام القرآن، عبد العزيز الطريفي، ج2، ص916].
وعلى هذا يمكن القول: إن التحية أعمّ من التحفة والهدية ونحوهما، فقد جاء في “فتح البيان” في تفسير قوله تعالى: {ويلقون فيها تحية وسلامًا}: ((المراد بالتحية إكرام الله تعالى لهم بالهدايا والتحف، وبالسلام، سلامه عليهم بالقول)). [فتح البيان في مقاصد القرآن، محمد صديق خان، ج9، ص357].
وعطف كلمة “تحفته” على “تحيته” في قول جبرئيل (عليه السلام): ((أن تتأهب لتحيته وتحفته))، يمكن أن يقال فيها: إنها من ذِكر الخاص بعد العام، والتخصيص بعد التعميم يدل على فضلٍ مختصٍّ، نحو قول القائل: (اجتهدوا في دروسكم واللغة العربية)، وفائدته التنبيه على فضل الخاص، كأنه لرفعته جنس آخر مغاير لما قبله، قال الزركشي في البرهان: ((القسم الخامس: ذكر الخاص بعد العام، فيؤتى به معطوفًا عليه بالواو للتنبيه على فضله، حتى كأنه ليس من جنس العامّ؛ تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات)) [البرهان في علوم القرآن، للزركشي، ج3، ص44].
وهو كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، فالرُّوح وهو جبريل -عليه السلام- قد ذُكر مرتين، مرة مندرجًا تحت العام، وهو الملائكة، ومرة وحده، وكأنَّه جنس آخر غير جنس الملائكة المعطوف عليهم، وهذا تكريم له وتعظيم لشأنه؛ فذكْر الخاصّ بعد العام، الغرض منه التنويه بشأن الخاص حيث يُذكر مرتين.
والملحوظ في هذا الحديث هو أن كل ما يتعلق بفاطمة الزهراء (عليها السلام) قد نزل من السماء، إلى أكرم الخلق من الأولين والآخرين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكن هذا الأمر ناتجًا عن حدوث مفاجئ، وعطاء بلا ثمن، بل كان له مقدمات وتهيئة روحية فريدة من نوعها، لم يشهد التاريخ البشري مثيلًا لها في هذا السياق، فجاء الأمر من الله سبحانه إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) بأن يعتزل خديجة لمدة أربعين صباحًا، حيث يقضيها بصوم النهار وقيام الليل، ومن ثم يأتيه الأمر الرَّباني: “أن تتأهّب لتحيَّته وتُحفته”، ولم يُفصح جبرائيل عن هذه التحية الإلهية والتحفة الربانية، وعند الإفطار جاءه ميكائيل بطبق مغطّى بمنديل استبرق، وإسرافيل بإناء فيه ماء، ولما كشفه وجد عذقًا من رطب، وعنقودًا من عنب، ولكنْ يُثار التساؤل هنا: هل هذه هي التَّحيَّة والتَّحفة التي أمره الباري أن يتهيَّأ، ويتأهب لها؟
الجواب: أن التحية الإلهية والتحفة الربانية هي التي كانت الصلاة عليه محرَّمة في تلك الفترة حتى يأتي بيت السيدة خديجة التي اشتاقت له كما اشتاق إليها؛ لأن الله سبحانه: “آلَى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذريَّةً طيِّبةً”، وهي التي تُقسم أمها السيدة خديجة، فتقول: “فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء، ما تباعد عني النبي، صلى الله عليه وآله، حتى حسست بثقل فاطمة، عليها السلام، في بطني”، هذه هي المعنية والمقصودة، وكل تلك مقدمات طبيعية، ونفسية، وروحية، ليكونوا جميعًا على استعداد تامٍّ لتلقي هذا العطاء الرَّباني الذي اسمه فاطمة؛ “لأن الله فطمها وشيعتها ومحبيها عن النار”. [يُنظر: بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، ج16، ص79-78].
وقد علق العلامة الهمداني على هذا الحديث بقوله: ((يستفاد من هذا الحديث الشريف أمور مهمة وفوائد عظيمة هي دالة على سموّ جلالة بضعة خير المرسلين ، وعلوّ منزلة زوجة أفضل الوصيين وأم الأئمة الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين . منها نزول جبرئيل (عليه السلام) على صورته الأصلية كنزوله في أول البعثة . ففي “البحار” ج 18، ص 247: “أن محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بحراء، فطلع له جبرئيل (عليه السلام) من المشرق، فسدّ الأفق إلى المغرب”.
ومعلوم أن مجيئه (عليه السلام) على هذه الهيأة لأمر عظيم، ومنها اعتكافه (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين يومًا في بيت فاطمة بنت أسد – رضي الله عنها – قائمًا ليله، صائمًا نهاره، واعتزاله عن الناس وعن زوجته الكريمة خديجة الكبرى سلام الله عليها، كما كان معتكفًا ومعتزلًا في أول البعثة بحراء، نعم، كان اعتكافه (صلى الله عليه وآله وسلم)، يومئذ لأجل أن يكون مهيَّئًا للنبوة والرسالة، وفي هذا الموقف لكونه متأهبًا للتحفة الإلهية التي ستكون منشأ الإمامة والولاية، بل هي عنصر شجرة النبوة كما جاء عن الباقر عليه السلام…)) [الأسرار الفاطمية، الشيخ محمد فاضل المسعودي، ص٣٢٦].
فسلام على الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها، والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.