السائل
الشيخ العوضي
السائل
الشيخ العوضي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: هل ان قضية كربلاء التي جسدها ابو عبد الله الحسين عليه السلام واهل بيته وصحبه الكرام هي قضية ذات بعد غيبي (شاء الله ان يراهن سبايا) ام انها قضية ذات بعد قابل للفهم العقلي البشري؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله المطهرين..
من الواضح جدا أن البعد الغيبي في قضية كربلاء وما جرى على سيد الشهداء (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه، كان سابقا على وقوع الأحداث التي جرت يوم عاشوراء، يقول الشهرستاني: ((تلوح من السيرة الحسينية المثلى انه مسبوق العلم بأنباء من جده وأبيه وأمه وأخيه وحاشيته وذويه بأنه مقتول بسيف البغي ـ خضع أو لم يخضع، وبايع أو لم يبايع ـ فهلا يرسم العقل الناضج لمثل هذا الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة، قوامها الشرع وزمامها النبل)) [نهضة الحسين، ص18].
ومن مصاديق ذلك: ((أنّ محمّد بن الحنفية لما بلغه أن أخاه عازم على الخروج من مكّة إلى العراق … صار إلى أخيه الحسين (عليه السلام) في الليلة التي أراد الحسين (عليه السلام) الخروج في صبيحتها عن مكّة. فقال له: يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خِفتُ أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تُقيم، فانّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه. فقال الحسين: يا أخي، قد خِفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمةُ هذا البيت. فقال له ابنُ الحنفية: فان خِفتَ ذلك فصِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد. فقال: أنظر فيما قلت. فلما كان السحر ارتحل الحسين (عليه السلام)، فبلغ ذلك ابنَ الحنفية فأتاه، فأخذ بزمام ناقته، وقد ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى. قال ابنُ الحنفية: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ قال: أتاني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعدما فارقتُك، فقال: يا حسين أخرج، فان اللّه قد “شاء أن يراك قتيلاً”. فقال ابنُ الحنفية: إنا للّه وإنا اليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك، وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال الحسين (عليه السلام): “إن اللّه قد شاء أن يراهنّ سبايا”. فسلّم عليه ومضى)) [اللهوف في قتلى الطفوف، ص39ـ40].
وما ورد في النص آنفاً ومنه (إن اللّه قد شاء أن يراهنّ سبايا) هو أشبه بوحي الله سبحانه إلى أم موسى حينما تملّكها الخوف على ولدها موسى (عليه السلام) وماذا تصنع به! فجاء الجواب: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. فكانت نتيجة تضحية أم موسى بولدها، هي: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8].
كذلك كانت نتيجة اصطحاب الحسين (عليه السلام) النساء والأطفال معه، لما تيقن أنهم سيساقون سبايا من قبل الأعداء، ولكن سبيهم هذا سيزلزل عروش الطغاة والظالمين ويحقق النصر الإلهي المرتقب، لذلك رفض الإمام الحسين (عليه السلام) كل الدعوات التي تدعوه إلى عدم الخروج من مكة والتوجه إلى العراق.
وهذا الفهم لا يتنافى ـ بطبيعة الحال ـ مع الحسابات الواقعية التي كانت تحتم على الإمام (عليه السلام) بأن يأخذ زمام المبادرة، بعد أن استأثر الأمويون بالسلطة، وطمسوا معالم الدين، واتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خِولاً. اجل لقد تحرك الإمام (عليه السلام) على ضوء المعطيات العملية، ومنها: وصول يزيد الفاسق إلى سدة الحكم، واكراهه الحسين (عليه السلام) على لزوم البيعة له، ولكن كان هذا التحرك ـ مع ذلك ـ بمشيئة وارادة إلهية.
وكشف عن هذه الرغبة الإلهية في عدة مواقف، منها: ((جاء عبداللّه ابن عباس، وعبداللّه بن الزبير فأشارا إليه بالإمساك. فقال لهما إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه. قال: فخرج ابن عباس وهو يقول: واحسيناه)) [اللهوف، ص21ـ22].
فهنا تتطابق الحقائق الواقعية مع الأوامر النبوية الصادرة عن عالم الغيب، فالحسين (عليه السلام) يدرك بصورة لا يشوبها الشك أنه بين خيارين أحلاهما مرّ: إما البيعة قسرا، أو القتل حتما. وليس أمامه إلا المسير حسب أوامر الغيب، المتمثلة بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له بالتحرك. [للاستزادة انظر: أبعاد النهضة الحسينية، لعباس الذهبي، ص11].
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.