مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

رواية بحيرة الراهب وورقة بن نوفل

تفاصيل المنشور

السؤال

كيف نقرأ الروايات الواردة حول بحيرة الراهب، ورؤيته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلته إلى الشام، مع عمه أبي طالب، وهو في الثانية عشر من عمره، وقصته مع ورقة بن نوفل. بعد نزول الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وما روي من خوفه على نفسه أن يصيبه شيء لا يدريه؟ وكيف يتفق هذا مع ما أخبرنا الله به من صناعة الأنبياء على عينه، وتدريبهم وهدايتهم به (جل شأنه)، وقوله لموسى وكل الأنبياء مثله:(.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى? عَيْنيِ) (طه:39)، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) (ص: 47)؟

السائل

الموسوي

تفاصيل المنشور

السؤال

كيف نقرأ الروايات الواردة حول بحيرة الراهب، ورؤيته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلته إلى الشام، مع عمه أبي طالب، وهو في الثانية عشر من عمره، وقصته مع ورقة بن نوفل. بعد نزول الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وما روي من خوفه على نفسه أن يصيبه شيء لا يدريه؟ وكيف يتفق هذا مع ما أخبرنا الله به من صناعة الأنبياء على عينه، وتدريبهم وهدايتهم به (جل شأنه)، وقوله لموسى وكل الأنبياء مثله:(.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى? عَيْنيِ) (طه:39)، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) (ص: 47)؟

الأخ الموسوي المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أغلب هذه الروايات لا يمكن الاطمئنان إليها ، ورائحة الوضع تفوح منها بوضوح ، وقد تعرّض لها بالنقد والتجريح علماء الفريقين .
ففي رواية بحيرة الراهب التي ورد فيها أنّ أبا طالب ( رضوان الله عليه ) اصطحب النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) معه إلى الشام وكان عمره يومذاك اثنتي عشرة سنة والتي يرد في آخرها أنّ أبا بكر بعث مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بلالا ليردّه والحال أنّ أبا بكر في ذلك الوقت كان عمره عشر سنين وبلالا لم يتمّ شراؤه بعد من قبل أبي بكر بل لم يكن مولوداً من أساس ، نجد مثل الذهبي يشكّك في صحّة الرواية من البداية ، ثمّ ينتقد متنها ويقول في ” تاريخ الإسلام ” : (( تفرّد به قراد واسمه عبد الرحمن بن غزوان ثقة احتج به البخاري والنسائي ؛ ورواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي .
وهو حديث منكر جدّا وأين كان أبو بكر ؟ كان ابن عشر سنين فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم – بسنتين ونصف ؛ وأين كان بلال في هذا الوقت ؟
فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد ؛ وأيضا فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة ؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها ولم نر النبي – صلى الله عليه وسلم – ذكر أبا طالب قط بقول الراهب ولا تذاكرته قريش ولا حكته أولئك الأشياخ مع توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار ولبقي عنده – صلى الله عليه وسلم – حس من النبوة ؛ ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولا بغار حراء وأتى خديجة خائفا على عقله ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه – صلى الله عليه وسلم – . وأيضا فلو آثر هذا الخوف في أبي طالب ورده كيف كانت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجراً لخديجة ؟ وفي الحديث ألفاظ منكرة تشبه ألفاظ الطرقية )). ( تاريخ الإسلام 1: 57)
فهنا نجد الذهبي يردّ رواية بحيرة الراهب وأنّها لا تتناسب حتّى مع مرويات أهل السنّة أنفسهم – فضلاً عن مرويات غيرهم – .
بل نجده ينصّ في كتابه الآخر ” ميزان الاعتدال ” على أنّ الرواية باطلة ، قال – بترجمة عبد الرحمن بن غزوان – : (( قلت : أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى ، في سفر النبي صلّى الله عليه وسلّم – وهو مراهق – مع أبي طالب إلى الشام وقصّة بحيرا ، وممّا يدلّ على أنّه باطل قوله : وردّه أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالاً ، وبلال لم يكن بعد خلق ، وأبو بكر كان صبيّاً )). ( ميزان الاعتدال 2: 581)
وكذلك نجد مثل ابن كثير يردّ رواية قرّاد هذه بجملة إشكالات ، منها أنّها مرسلة عن راويها أبي موسى الأشعري ، قال في ” البداية والنهاية ” : (( قلت : فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة . ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة وعلى كل تقدير فهو مرسل . فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة ، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم ، أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه من طريق الاستفاضة .
الثاني : أنّ الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا .
الثالث : أنّ قوله وبعث معه أبو بكر بلالا إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي
عشرة سنة فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة ، وعمر بلال أقل من ذلك ، فأين كان أبو بكر إذ ذاك ؟ ثم أين كان بلال ؟ كلاهما غريب )). ( البداية والنهاية 2: 348)

أمّا رواية ورقة بن نوفل فقد وردت في كتب أهل السنّة بشكل متناقض ، كما يكشف عنه السيد المحقّق جعفر مرتضى العاملي تقدّست نفسه في كتابه ” الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم” ، الجزء الثالث ، فهو بعد أن كشف عن عشرة روايات يناقض بعضها بعضا في هذه القصّة ، صرّح قائلاً : (( أن هناك طائفة من الروايات مكذوبة لأن هذا الاختلاف لم يكن بالزيادة والنقيصة ليمكن قبوله ؛ على اعتبار أنّ أحد الرواة قد حفظ ولم يحفظ الراوي الآخر . . أو تعلق غرضه بهذا النحو من النقل ، وذاك بنحو آخر ، وكذا لو كان التناقض في مورد واحد مثلاً ، فلربما يمكن الاعتذار عن ذلك بأن من الممكن وقوع الاشتباه غير العمدي من أحد النقلة .
ولكن الأمر هنا أبعد من ذلك ، فإن التناقض والاختلاف إن لم يكن في كل ما تضمنته تلك الروايات من نقاط ، ففي جلها مما يعني أن ثمة تعمداً للوضع والجعل ، وقديماً قيل : « لا حافظة لكذوب » .
هذا كله ، مع غض النظر عن المناقضة بين هذه الروايات وبين الرواية التي يذكرها البخاري نفسه في أول كتابه بعد هذه الرواية مباشرة من أن أول ما نزل عليه « صلّى الله عليه وآله » هو سورة المدثر ، ويلاحظ أنه ليس في تلك الرواية ذكر لأي شيء من تلك الأمور الغريبة والعجيبة التي تضمنتها رواية عائشة السابقة عليها ؛ فإن عدم ذكرها لشيء من ذلك يورث الشك والريب ، ويثير أكثر من سؤال عن السبب في إهمال التعرض لذلك .
ثالثاً : إن رواية الصحاح ، بل وسائر الروايات تذكر :
أن جبرئيل قد أخذ النبي « صلّى الله عليه وآله » فغطه ، أي عصره وحبس نفسه أو خنقه حتى بلغ منه الجهد ، أو حتى ظن أنه الموت ، ثم أرسله ، وأمره بالقراءة ؛ فأخبره النبي « صلّى الله عليه وآله » : أنه لا يعرفها ، فلم يقنع منه ، بل عاد فغطه ، ثم أرسله ، وهكذا ثلاث مرات .
ولنا على هذا الكلام العديد من الأسئلة .
فإننا لا نعرف ما هو المبرر لذلك كله ؟
وكيف جاز لجبرئيل أن يروع النبي الأعظم « صلّى الله عليه وآله » ، وأن يؤذيه بالعصر والخنق ، إلى حد أنه « صلّى الله عليه وآله » يظن أنه الموت ، يفعل به ذلك ، وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به ولا يرحمه ، ولا يلين له ! !
ولماذا يفعل به ذلك ثلاث مرات ، لا أكثر ولا أقل ؟ ! .
ولماذا صدقه في الثالثة ، ولا يصدقه في المرة الأولى ؟ أو الثانية ؟ !
وإذا كان النبي « صلّى الله عليه وآله » قد كذب عليه أولاً ، فكيف بقي أهلاً للنبوة ؟ ! وإذا كان قد صدقه فلماذا لم يقتنع جبرئيل بكلامه ، وعاد فخنقه حتى ليظن أنه الموت ؟ ! .
وأيضاً ، هل جاء جبرئيل إليه بكتاب ليقرأه ؛ إذ أن قوله « صلّى الله عليه وآله » : « ما أنا بقارئ » إنما يصح لو كان « صلّى الله عليه وآله » قد فهم أن جبرئيل يأمره بالقراءة نفسها – لا بتعلم القراءة – كما ذكره السندي .
وإذا كان المراد : القراءة بمعنى التلاوة ؛ فلماذا يطلب منه جبرائيل ذلك ، قبل أن يتلو عليه شيئاً ؟ . ثم لماذا يعاند هو ويرفض ذلك ؟!
وبعد هذا كله ، لماذا يستسلم النبي « صلّى الله عليه وآله » لجبرائيل ليعذبه على هذا النحو الذي لا مبرر له ؟
ثم لماذا يرجع مرعوباً خائفاً ؟ ! ألم يكن باستطاعته أن يلطمه لطمة يقلع بها عينه ؟ كما فعل موسى بملك الموت من قبل ؟ ! حيث إنه لما جاء ليقبض روحه ، لطمه على عينه فقلعها ، كما نص عليه البخاري ، وكثير من المصادر الأخرى !!
أم يعقل : أنه كان – والعياذ بالله – جباناً إلى هذا الحد ؟ ! وكانت الشجاعة من مختصات نبي الله موسى وحده ؟!
وأخيراً ، كيف يخاف نبيّنا هنا ، والله تعالى يقول : ( يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) .
قد ورد أنّ زرارة بن أعين سأل الإمام الصادق « عليه السلام » : كيف لم يخف رسول الله « صلّى الله عليه وآله » فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزع به الشيطان ؟
فقال : إن الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار ، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه )). ( الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم ص 3: 16)

هذا كلّه في سند هذه الروايات ومتونها وقد تبيّن أن حالها يدور بين الوضع والبطلان والإرسال والتناقض والغرابة والنكران بشهادة الأعلام من الفريقين ، أمّا الدلالة فهي تتعارض مع القرآن الكريم ، فقد ثبت في آيات كثيرة واضحة الدلالة عناية المولى سبحانه بأنبيائه منذ ولادتهم حتى مماتهم ، وبما يسهل لهم المهمة التي انتجبهم لأجلها ، وقد تجلّت هذه العناية بوضوح ، خاصّة بحقّ أنبياء الله : يوسف ، وموسى ، وعيسى ( عليهم السلام ) ، فمن يتابع الآيات التي جاءت بخصوص هؤلاء الأنبياء الثلاثة يجد بوضوح العناية الإلهية التي لم لا تفارقهم منذ ولادتهم إلى آخر حياتهم ، يقول تعالى في سورة “طه” غن نبيّ الله موسى ( عليه السلام ) : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ( 36 ) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ( 37 )
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ( 38 ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ( 39 )
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ( 40 ) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ( 41 ) }.
فانظر إلى قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ، وقوله تعالى : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } ودلالتهما على العناية الإلهية لنبيّ الله موسى ( عليه السلام ) منذ ولادته ، الأمر الذي لا يستقيم مع ما ورد من قصص مختلقة متقدّمة توحي بالاضطراب والجهل عند أنبياء الله .