مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

روايةُ سحر النبيّ في الصحيحين طعنٌ صريح في العصمة لا يدفعه التبرير

تفاصيل المنشور

الاشكال

ما وجْه الإنكار على حديث سحر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد ثبت في أصحِّ الكتب، وأنّ الأئمة كالقاضي عياض قد بيّنوا أنّ السحر إنما وقع على ظاهر بدنه لا على قلبه أو عقله أو اعتقاده، فلم يمسّ مقام النبوّة ولا حجّية الوحي، ولا أخلّ بعصمته في التبليغ؟! فبأيِّ وجهٍ يُستنكر هذا الحديث؟!

المستشكل

أزهري

تفاصيل المنشور

الاشكال

ما وجْه الإنكار على حديث سحر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد ثبت في أصحِّ الكتب، وأنّ الأئمة كالقاضي عياض قد بيّنوا أنّ السحر إنما وقع على ظاهر بدنه لا على قلبه أو عقله أو اعتقاده، فلم يمسّ مقام النبوّة ولا حجّية الوحي، ولا أخلّ بعصمته في التبليغ؟! فبأيِّ وجهٍ يُستنكر هذا الحديث؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.

إنّ ما ذكره القاضي عياض في مقام التبرير لما ورد في حديث سحر النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: ((وقد جاءت رواياتُ هذا الحديث ‌مبيِّنة ‌أنّ ‌السحر ‌إنما ‌تسلَّط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده)) [شرح النووي على مسلم، ج14، ص175]، كلامٌ لا ينهض بحالٍ من الأحوال لدفع الإشكال المترتِّب على أصل صدور هذا الحديث، بل هو محضُ تكلّفٍ لا يرتضيه المنصِف، ولا يقبله من له أدنى درايةٍ بلوازم مقام النبوة. فإنّ القول بأنّ السحر إنما طال ظاهر النبيّ دون باطنه، وأنه لم يؤثِّر على عقله وقلبه بل على جوارحه فقط، هو تفكيكٌ مصطنع لا أساس له في واقع الأمر؛ إذ من المعلوم عند أهل الفهم والعقل أنّ السحر لا ينفذ إلى الجسد من حيث هو جسدٌ، وإنما مورد فعله الحقيقيّ هو نفس الإنسان وإدراكه وتوهّمه، وقد نصّ القرآن الكريم على هذا بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، فبيّن أنّ السحر يوقع الوهم في نفس المُشاهِد، فيرى الشيء على خلاف حقيقته.

ومن هنا، فإنّ ما تضمنه حديث السحر من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يُخيّل إليه أنه فَعل الشيء، ولم يفعله ـ كظنِّه أنه أتى نساءَه، وهو لم يأتهنّ المرويّ في الصحيحين ـ صريحٌ في حصول الخلل في قوّته المدركة، وهي من شؤون النفس والعقل لا من شؤون الجوارح. وإنّ محاولة حصر تأثير السحر في الجوارح والظاهر مجرَّد لعبٍ بالألفاظ لا يصمد أمام النظر الدقيق؛ إذ كيف يَتصور عاقلٌ أنْ يخيّل إلى الإنسان أنه فَعل، ولم يفعل، دون أنْ يكون لذلك مساسٌ بقواه العاقلة؟! وهل الفِعل وعدمه يُدرك بالجوارح أم بالعقل؟! بل إنّ أيَّ مساسٍ بأشدّ اللحظات خصوصيّة ـ كما في معاشرته لنسائه ـ يُعدّ من أعظم الطعن في مقام النبوة وأشدّ الوهن في صورة العصمة، لا سيما وأنّ هذا الفعل ليس فعلًا بدنيًّا صرفًا، بل هو فعلٌ يتعلّق بالإرادة والشعور، فكيف يُخيّل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حصوله، وهو لم يحصل، ويُقال بعد ذلك: إن عقله وقلبه لم يمسسهما شيء؟!

ومضافًا إلى ذلك، فإنّ الإقرار بوقوع مثل هذا السحر يستلزم فتح باب التشكيك في أصل النبوة والرسالة؛ لأنه متى جاز أنْ يختلّ إدراك النبيّ‏ (صلى الله عليه وآله وسلم)‏ في أمور معاشه، فيُخيَّل إليه فِعلُ ما لم يقع، جاز ـ بطريقٍ أولى ـ أنْ يَختلَّ إدراكه في ما يتلقّاه من الوحي، وأنْ يُخيّل إليه أنّ جبرئيل أتاه بالرسالة، وهو لم يأتِ، بل لا أمْن من توهّم السماع أو الرؤية أو الفهم، وهذا مما لا يلتزمه إلا من بلغ مبلغًا من الكفر والزندقة. فإنّ النبوة إذا لم تكن محفوظة من الخطأ والوهم والخيال، فلا معنى للإيمان بها، ولا يبقى لقول النبيّ حجيّة، ولا لوحيه مصداقيّة.

وأما ما يُقال من أنّ هذا السحر لم يؤثِّر على قلب النبي ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏ ولا على اعتقاده، فهو كلام غير منتِج في مقام دفع التهمة؛ لأنّ القضية لا تدور مدار فساد العقيدة، بل مدار صدق الإدراك وصحة التبليغ، فإذا حصل الوهم في فعلٍ عمليٍّ محسوسٍ ومباشر، فمن أين الوثوق بسلامة الإدراك في غيره من الأمور؟! بل أيّ معنى لكون النبي‏ (صلى الله عليه وآله وسلم)‏ حجّة إذا كان يختلُّ عنده التمييز بين الواقع والخيال؟! ولو سلّمنا جدلًا أنّ قلبه لم يتأثَّر، فإنّ فساد الإدراك ـ وهو مناط الحجّة ـ واقعٌ بحكم الرواية نفسها، فكيف يُبنى عليه الدِّين؟!

وعليه، فإنّ ما ذكره القاضي عياض لا يعدو أنْ يكون تبريرًا واهنًا وتلطيفًا سخيفًا لما لا يُلطَّف، بل هو في نفسه شاهدٌ على ضعف المتمسّكين بهذا الحديث، واضطرارهم إلى ترقيعٍ لا يستقيم مع العقل والدين، وغاية ما يكشفه عنهم هو أنهم سلّموا بالرواية أولًا، ثم انحرفوا بالدين والعقل ثانياً لتسويغها.

أما نحن فديننا مأخوذٌ من معدن العصمة، ومنهجنا قائمٌ على تنزيه النبي الأعظم ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏ عن كل ما يُخِلّ بمقامه الشريف، ويهدر قداستَه في أعين الناس، فمثل هذه الروايات عندنا مردودةٌ؛ لأنها تصادم العقل والنقل، فضلاً عن أنها تساقطت من حيث السند والدلالة عند المحقّقين من العلماء.

والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ‏المنتجَبين.‏

مركز الدليل العقائدي.‏