مركز الدليل العقائدي

دلائلُ انفصالِ آية التطهير عن خطاب نساء النبي

تفاصيل المنشور

السؤال

توجد شبهةٌ تُطرح بكثرةٍ في الوقت الحالي من قِبَل المخالفين، وهي أنه بعد آية التطهير مباشرة تأتي كلمةُ ﴿واذكرن﴾ ويقولون: إن الواوَ هنا واوُ عطفٍ، وهذا يدلُّ على أنّ آية التطهير مخاطبٌ بها نساء النبيِّ، أو أنها نزلت في نساء النبيِّ بسبب العطف.

السائل

محمد رضا

تفاصيل المنشور

السؤال

توجد شبهةٌ تُطرح بكثرةٍ في الوقت الحالي من قِبَل المخالفين، وهي أنه بعد آية التطهير مباشرة تأتي كلمةُ ﴿واذكرن﴾ ويقولون: إن الواوَ هنا واوُ عطفٍ، وهذا يدلُّ على أنّ آية التطهير مخاطبٌ بها نساء النبيِّ، أو أنها نزلت في نساء النبيِّ بسبب العطف.

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمدٍ وآله المطهرين..
آيةُ التطهير آيةٌ مستقلة، ولا محذور من اندراجها ضمن الآيات المرتبطةِ بنساء النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومثلُه غير عزيزٍ في القرآن الكريم، فإنّ من سُنن العرب أنْ يَعترض بين الكلام وتمامه كلامٌ لا يكون مفيدًا إلّا به ، واصطلحوا على هذا الكلام المعترِض، فأسمَوه بـ (الجملة الاعتراضية)، والغايةُ المتوخّاة من هذه الجملة أنّها تفيد تأكيدًا وتسديدًا للكلام الذي اعترضتْ بين أجزائه.
وقول المشتبه: «أن بعد آية التطهير مباشرة تأتي كلمة {وَاذْكُرْنَ}؛ لذا فإن الواوَ هنا واوُ عطف»!!
يجاب عنه بالآتي: فقد نصَّ النحاةُ على أنه لا يلزم توالي المتعاطفَين، وأنه قد يُفصَل أحيانًا بينهما، والذي ‏يعيِّن، ‏ويحدِّد ‏المعطوف والمعطوف عليه هو سياق الكلام، ومن أمثلة الفصل بين المتعاطفين: قول ‏الله ‏تعالى: ‏‏{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129]، وقوله عزّ ‏وجلّ: ‏‏{اتَّخَذُوا ‏أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، وقوله ‏تبارك ‏وتعالى: ‏‏{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا ‏مَسْفُوحًا أَوْ ‏لَحْمَ ‏خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145]، فـ(أجَلٌ) في الآية ‏الأولى ‏معطوف ‏على (كَلِمَةٌ)، و(الْمَسِيحَ‏) في الآية الثانية معطوف على (أحْبَارَهُمْ‏)، و(فِسْقًا‏) في ‏الآية ‏الثالثة ‏معطوف على (مَيْتَةً‏).‏
فقد فُصِل بين المعطوف والمعطوف عليه في هذه الآيات الثلاثة، كما هو واضحٌ، والذي ‏حدَّد، ‏وعيَّن ‏المعطوف والمعطوف عليه في هذه الآيات الثلاثة هو سياق الكلام.‏ ولو كان لا بد من مجيء المعطوف بعد المعطوف عليه مباشرة لواجهَنا محذورٌ في فهم قوله تعالى: ‏{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ ‏الْمُشْرِكِينَ ‏وَرَسُولُهُ} ‏‏[التوبة:3‏]، إذ إنّ معنى ‏العطف ‏هنا ‏براءة الله من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأنه يكون معطوفًا على ‏المشركين الذين ‏تبرَّأ ‏اللهُ ‏منهم، وهذا محالٌ؛‏ لأنه يقتضي الكفر.‏
وهذا النوع من الجُمل ذو حضورٍ وافرٍ وواضح في آيات القرآن الكريم، وقد نبّه على هذا الأسلوب كثيرٌ من المفسِّرين، وبالأخصّ الذين لهم عنايةٌ بالجانب اللغويّ والبلاغي كالزمخشري، حيث أشار إلى هذا الأسلوب في عدّة آياتٍ من القرآن الكريم، منها، قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، قال الزمخشري: ((وقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} الآية، جملة اعتراضيّة واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكّدةٌ لمعنى خطئهم، وما أحسن نظمَ هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم)) [تفسير الكشّاف، للزمخشري، ج3، ص395].
وممّن أشار إلى هذا الأسلوب من المفسِّرين: أبو حيّان أثير الدين الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط): قال تعالى: {وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى الله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:73]، قال أبو حيّان: ({وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ويكون قوله: {إِنَّ الهُدَى هُدَى الله} جملةً اعتراضيّة بين ما قبلها وما بعدها) [تفسير البحر المحيط، ج3، ص214].
وهكذا غيرهما من المفسِّرين تعرَّضوا لذكر هذا الأسلوب (الجملة الاعتراضيّة) وأعرضتُ عن ذكرهم خشية الإطالة، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى تفاسير أهل السنّة.
إذن، المفسرون كثيرًا ما يعوِّلون على هذا الأسلوب، وقد اعتمدوا عليه في تفسير كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، فابن عاشور تحدَّث عنه في مقدّمة تفسيره، وبيّن فائدتَه، فقال: ((تكثُر في القرآن الجُمل المعترضة لأسبابٍ اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإنّ كلَّ جملة تشتمل على حكمةٍ وإرشاد، أو تقويمِ معوَجّ)) [التحرير والتنوير، لابن عاشور، ج1، ص81].
وعلى ضوء ما تقدّم: يتّضح أنّ آية التطهير إنما زُجَّت بين الآيات المختصّة بنساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحوِ الجملة الاعتراضيّة من باب التأكيد على مقام أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، لانتساب النساء المعنيّات إلى هذا البيت الطاهر.
علاوة على ذلك، فقد صرَّحت عدّةُ روايات بهذه العبارة: (نزلت الآية..) فلو كانت جزءَ آيةٍ كما هو المدّعى لمَا جاءت الأخبار والآثار مؤكِّدةً أنّها آية، منها:
1 – عن عمر بن أبي سلَمة ربيبِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: ((لمّا نزلت «هذه الآية» على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} في بيت أمّ سلَمة … )، وصرَّح الألبانيّ بصحّته . [صحيح وضعيف سنن الترمذي، للألباني، ج7، ص205].
2 – عن أمّ سلَمة رضوان الله عليها أنّها قالتْ: ((في بيتي نزلتْ «هذه الآية» {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}…)) [مستدرك الحاكم، ج2، ص451، ح 3558].
3 – عن أمّ سلَمة رضوان الله عليها، قالتْ: ((… فاجتمعوا على تلك البرمة، يأكلون منها، «فنزلت الآية» {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}…) ([الشريعة، للآجُرّي، ج5، ص2209، ح 1697].
4 – عن أبي سعيد الخدري، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نزلتْ هذه الآية» في خمسة، فيَّ وفي عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم)) [المحرر الوجيز، ج5، ص308].
وغيرها كثيرٌ من الروايات التي جاءتْ بطرقٍ متعدِّدة صرَّحت بالنَصِّ (أنّها آيةٌ) كما هو واضح.
ثم إنك إذا تتبَّعتَ أسلوب الخطاب في الآية الكريمة ستجد أنه ما قبل آية التطهير جاء بصيغة التأنيث: ‎(لَسْتُنَّ – اتَّقَيْتُنَّ – فَلَا تَخْضَعْنَ – وَقُلْنَ‏) وفي الآية الثانية كذلك: (َقَرْنَ – بُيُوتِكُنَّ – تَبَرَّجْنَ – أَقِمْنَ –آتِينَ – أَطِعْنَ)، ثم يتبدل أسلوب الخطاب إلى صيغة التذكير: (عَنْكُمُ – يُطَهِّرَكُمْ)، ثم يعود الخطاب بعد ذلك إلى ما كان عليه من صيغة التأنيث: (اذْكُرْنَ – بُيُوتِكُنَّ)، فاختلاف الضمير في الجمل المعطوفة التي تجيء في سياق واحد غير جائز مثل الكلام عن النساء ‏ثم الانتقال إلى الكلام عن الذكور ـ كما هو موضوع الآية ـ إلا بوجود قرينةٍ على ذلك، والآية خاليةٌ ‏عن قرينةٍ تشير إلى ذلك الانتقال، وكذلك الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، وهو ما يسمى بالالتفات.‏
فلو كان المراد بآية التطهير نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما عدل من صيغة التأنيث إلى التذكير، ثم عاد بعدها إلى صيغة التأنيث، فأنعم النظر في قوله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:32 و33 و34].
ولنفرض أنّنا حذفنا آية التطهير، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ‏وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، فلو ضمَمْنا ما قبلها إلى ما بعدها، لوجدنا أنّ المعنى والنّظم لم يختلّا، وهذا يدلّ ‏على أنّ آيةَ التطهير آيةٌ مستقلّةٌ وردت في سياق الآيات لِمصلحةٍ عظيمة.‏
أَلَا يمكن أنْ يكون كلُّ هذا دليلًا على أنّ المراد من آية التطهير ليس نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! أَلَا يكفي في الدليل على ذلك ما في صحيح مسلم في ذيل حديث الثقلين عن زيد بن أرقم، أنه سئل: هل نساؤه من أهل بيته؟ ‏قال: ‏‏((لا، وايم الله! إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلِّقها، فترجع إلى أبيها ‏وقومها))‏ [صحيح مسلم، ج4، ص1874، تـ. عبد الباقي].
وغير هذا وذاك، فإنه لم ينقل عن واحدةٍ من نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها ادعت ‏شمولها بآية التطهير أو أن إحداهن معنيّة بها، ولو كان لبان، ولكنْ ورد عكس ذلك تمامًا، فقد روى ‏البخاريّ في صحيحه أنّ عائشة ‏قالت: (‏‏(ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن، إلّا أنّ الله أنزل عُذري)) ‏‏[صحيح البخاري، ج4، ص1827، تـ. البغا].‏
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.
مركز الدليل العقائدي.