تفاصيل المنشور
- السائل - طالب علم
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 28 مشاهدة
تفاصيل المنشور
يستدِلُّ البعض بنهج الآية {تِلكَ أُمّةٌ قد خَلت لها ما كَسبَت ولَكُم ما كَسبتُم ولا تُسألونَ عَما كانوا يَعمَلون} فيقول كلٌّ عليه بنفسه، فما لَكُم تُهيِّجون أمورًا أنتُم بحلٍّ عن شأنِها، فلا أنتَ حامِل وزر فُلانٍ، ولا هو حامِلٌ لوزرك .. فالسؤال متى يصحُّ الانتهاج بمنهج الآية؟ وما ردُّكم على هذه الأقاويل؟
السائل
طالب علم
يستدِلُّ البعض بنهج الآية {تِلكَ أُمّةٌ قد خَلت لها ما كَسبَت ولَكُم ما كَسبتُم ولا تُسألونَ عَما كانوا يَعمَلون} فيقول كلٌّ عليه بنفسه، فما لَكُم تُهيِّجون أمورًا أنتُم بحلٍّ عن شأنِها، فلا أنتَ حامِل وزر فُلانٍ، ولا هو حامِلٌ لوزرك .. فالسؤال متى يصحُّ الانتهاج بمنهج الآية؟ وما ردُّكم على هذه الأقاويل؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
استدلَّ علماء أهل السُّنة بقوله تعالى: {تِلكَ أُمّةٌ قد خَلت لها ما كَسبَت ولَكُم ما كَسبتُم ولا تُسألونَ عَما كانوا يَعمَلون} [البقرة:134]، على الإمساك عما جرى بين الصحابة من حروبٍ وفِتنٍ، وهو في الواقع استدلال فاسدٌ من وجوه:
أنّ الاستدلال بظاهر الآية على أنّ الأمم الخالية لا ينبغي السؤال عن أخبارهم وقصصهم؛ لأن لهم ما كسبوا ولنا ما كسبنا، استدلالٌ خاطئ قطعًا، ولا يفيده معنى الآية من قريبٍ ولا من بعيد، وأحسنُ ردٍّ على هذا الظن هو ورود أخبار الأمم السابقة في القرآن نفسِه!، بدايةً من آدم (عليه السلام) إلى نوح وقومه إلى إبراهيم وقومه، وكذلك أيوب وداود وسليمان والأسباط ويوسف وموسى وعيسى (عليهم السلام) وغيرهم ممن قصّ الله علينا قصصهم في القرآن الكريم، فيجب على من كان يرى ضرورة الإمساك عما جرى بين الصحابة أن يراجع فهمَه؛ لأنّ تفسير القرآن الكريم بهذه العجَلة في الاستدلال وبلا منهج ولا جمع بين الآيات هو فعلٌ مخالف للشرع.
علاوةً على ذلك، فإن قوله تعالى: {تِلكَ أُمَةٌ قد خَلت لها ما كَسبَت ولَكُم ما كَسبتُم ولا تُسألونَ عَما كانوا يَعمَلون}، لا تدلُّ على شيءٍ مما ذهبوا إليه، ودونك نماذج من أقوال المفسرين في تفسير الآية:
قال الطبري في تفسيره: ((القول في قوله تعالى “تِلكَ أُمّةٌ قد خَلت لها ما كَسبَت ولَكُم ما كَسبتُم ولا تُسألونَ عَما كانوا يَعمَلون”، يعني تعالى ذكره بقوله “تلك أمة قد خلت”: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم، يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى، دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهلُه، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية، فتضيفونها إليهم، فانهم أمّة ـ ويعني بالأمة في هذا الموضع الجماعة والقرن من الناس ـ “قد خلت” مضت لسبيلها، وإنما قيل للذي قد مات، فذهب قد خلا لتخلّيه من الدنيا وانفراده بما كان من الأنس بأهله وقربائه في دنياه…)).
إلى أن قال: ((… ذكره لليهود والنصارى أن لمن نحلتموهم بضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه من أنبيائي ورسلي ما كسبت والهاء والألف في قوله “لها” عائدة إن شئت على “تلك” وان شئت على “الأمة” ويعني بقوله “لها ما كسبت” أي ما عملت من خيرٍ، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم، ولا تؤاخَذون أنتم أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل، فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون، فيكسبون من خير وشر؛ لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، فدعوا انتحالهم وانتحال ملَلهم، فإن الدعاوى غير مغنِيتكم. وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم، إن كنتُم عملتموها، وقدمتموها…)). [تفسير الطبري، ج3، ص100 – 101، ط. دار التربية والتراث].
وقال ابن كثير في تفسيره: ((وقوله تعالى “تِلكَ أُمّةٌ قد خَلت” أي مضت، “لها ما كسبت ولكم ما كسبتم” أي أنّ السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، “ولا تسألون عما كانوا يعملون”. وقال أبو العالية والربيع وقتادة: “تلك أمة قد خلت” يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ ولهذا جاء في الأثر «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه». وقوله تعالى “تلك أمة قد خلت” أي قد مضت “لها ما كسبت ولكم ما كسبتم” أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم “ولا تُسألون عما كانوا يعملون” وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله واتّباع رسله الذين بُعثوا مبشِّرين ومنذرين، فإنه مَن كفَر بنبيٍّ واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين رسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجنّ من المكلَّفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين)) [تفسير ابن كثير، ج1، ص447، تـ. السلامة].
ولم نجد تفسيرًا معتبرًا من التفاسير المشهورة، يخالف هذه التقريرات التي ساقها كلٌّ من الطبري وابن كثير، ولم نجد تفسيرًا من التفاسير يستدلّ بهذه الآية على وجوب الإمساك المزعوم.
وخلاصة التفسير لهذه الآية التي يستدلّون بها على الإمساك المزعوم، أنها لا تحمل دلالة صريحة على ما يظنون، ويزعمون، والدليل على عدم دلالتها على ما ذهبوا إليه من وجوه كثيرةٍ، أبرزها ثلاثة:
الوجه الأول: أن هذه الآية نزلت في اليهود منكِرة عليهم ادّعاءهم أن إبراهيم كان يهوديًّا، فكانوا يفتخرون بأن إبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) كانوا يهودًا، مثلما نحن اليوم نفتخر بأن منّا مَن فتح المشرق والمغرب، فنتغنّى بالتفاخر بالسلَف الصالح، وكأننا مسؤولون عن أعمالهم لا عن أعمالنا ! فنحن نعمل عمل اليهود نفسه الذين وبّخهم الله عز وجل على تفاخرهم بأنبيائهم ونسيانهم صالح الأعمال!
إذن، فالآية لها سببٌ خاصٌّ يحدِّد الإطلاق الظاهر من الآية.
الوجه الثاني: أننا مأمورون بالتفكُّر والتحدُّث عن الأمم السابقة؛ لأن القرآن الكريم مليء بالآيات والسور عن الأمم السابقة، وأن هذه الأحداث التي حدثت في عهد الصحابة كفتنة عثمان وما جرى بعدها جاءت فيها أحاديث صريحةٌ، فلا يجوز أن نضرب حديث عمار ولا حديث الخوارج ولا حديث الحوأب ولا حديث الزبير عن طريق هذه الآية مع سوء فهمنا لها! وكذلك لا يجوز أنْ نضرب غيرَها من الأحاديث الصحيحة في شأن ما جرى بين الصحابة بالاستدلال بهذه الآية.
الوجه الثالث: وقد يقول البعض: إننا ينبغي أنْ نتكلم عن محاسن الماضين، ونترك الكلام في أخطائهم! وهذا يخالف القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة؛ إذ ورد في القرآن بيان خطأ بعض الصحابة، سواء تلك الأخطاء الجماعية كتركهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب قائمًا وخروجهم لأجل التجارة، وما حصل من كثير منهم يوم أُحُد عند مخالفتهم لأوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبقاء على جبل الرماة، وقد نزل القرآن الكريم أيضًا بتخطئة الصحابة يوم حنين وتفاخرهم بكثرتهم، وأيضًا نزل القرآن الكريم بتخطئة أفرادٍ من الصحابة كما حصل لحاطب بن أبي بلتعة، ونزل القرآن الكريم بالحكم بالفسق على “الوليد بن عقبة” وهو صحابي – حسب تعريفهم – كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، ونحو ذلك من القصص.
فهل نترك هذه العِبَر والدروس والأحداث المذكورة في القرآن الكريم بلا استفادة ولا بحث ولا دراسة من أجل تفسير خاطئ لقوله تعالى: “تلك أمة قد خلت”؟!
هل الاستفادة من كتاب الله بعِبَره ودروسه وفوائده تقتصر على القرن الأول فقط؟! أو أن الواجب علينا أن نستفيد من كلِّ ما ذكره القرآن الكريم، سواء ما ذكره عن أحداث أو أشخاص أو أخطاء أو محاسن …إلخ؟! لا ريب عند المسلم العاقل أنّ هذا الأخير هو الحقّ والصواب.
أما السنة النبوية الصحيحة فمخالفتها للاستدلال الخاطئ بهذه الآية واضحٌ في أدلة كثيرة جدًّا، منها حديث عمار ((ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) [صحيح البخاري، ج1، ص172]، والحديث ظاهر الدلالة بأنه كلام فيما شجر بين الصحابة، وأنه يخالف ما يذهب إليه بعضهم من وجوب الإمساك المطلق الذي لا يدلّ عليه دليل صحيح.
ومنها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((تمرُق مارقةٌ على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)) [صحيح مسلم، ج2، ص745، تـ. عبد الباقي] وهذا الحديث فيه حُكم واضحٌ من (النبي صلى الله عليه وآله وسلم) بأن عليًّا (عليه السلام) على الحق؛ لأنه هو الذي قاتل الخوارج يوم النهروان، ووجد فيهم العلامة التي ذكرها (النبي صلى الله عليه وآله وسلم). وقد شهد أبو سعيد الخدري بسماعه حديث ” تمرق مارقة على حين فرقة “، قال: ((أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليًّا قتلهم، وأنا معه)) [صحيح البخاري، ج6، ص2541، تـ. البغا].
إذن، النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يمسك ذلك الإمساك المزعوم على إطلاقه.
وانظر للاستزادة حول هذه المسألة، كتاب “حسن الإجابة في عقيدة الإمساك عما شجر بين الصحابة، لحسن بن فرحان المالكي، ص8 -12.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.