تفاصيل المنشور
- السائل - مجموعة من طلاب الحوزة
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 42 مشاهدة
تفاصيل المنشور
سيدنا الفاضل ممكن شرح لهذه الحكمة ((من كثر فكره في المعاصي دعته اليها)) وما هي الآثار المترتبة على ذلك. وشكرا لجهودكم الملموسة.
السائل
مجموعة من طلاب الحوزة
سيدنا الفاضل ممكن شرح لهذه الحكمة ((من كثر فكره في المعاصي دعته اليها)) وما هي الآثار المترتبة على ذلك. وشكرا لجهودكم الملموسة.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمدٍ وآله المطهَّرين، مصابيحِ الظلام، وهداةِ الأنام.
هذه الكلمةُ لأميرِ المؤمنين (عليه السلام) وردت في كتاب “ميزان الحكمة” نقلا عن كتاب “غرر الحكم” للآمدي [ج3، ص2465].
وهي جاريةٌ مَجرى القواعدِ الجامعة في تهذيبِ النفس؛ تُنبّه إلى أنّ الإكثارَ من استحضارِ صورةِ المعصية والتلذّذِ بتخيّلها هو بعينِه بناءُ الداعي وإضعافُ المانع، حيث انّ الصورةَ المستحضَرة في الخيال إذا كَثُر تكرارها واستُرسِل في التفكّر فيها على نحوٍ من التلذّذ والتمثّل، ولَّدتْ في الباطن داعياً قويّاً إلى الفعل.
فالخاطرةُ إذا لم تُدفَع أوّلَ ورودِها تحوّلت حديثَ نفس، وحديثُ النفس مع التكرار يصير هَمّاً، والهمّ إذا قَوِيَ انقلب عزماً، والعزمُ متى خلا من مانعٍ جسَّدته الجوارحُ عملاً.. وكما قيل: (الخَواطر بريدُ الأعمال)، إذ هي أوّلُ السلسلة وآخرُها الفعل.
والمرادُ من كثرةِ الفكر في قوله (عليه السلام): ((من كثر فكره)) ليس مطلقَ خطورِ الصورةِ على القلب قهراً، فإنّ ذلك لا يُؤاخَذ به العبدُ إذا بادر إلى صرفه، بل المذمومُ هو الاسترسالُ الاختياريّ في تخيّل الحرام وتزيينه للنفس، أو ترتيبُ مقدّماته في الذهن؛ لأنّ هذا النحو من التفكير يُضعف مهابةَ المعصية في القلب، ويُضعف استشعارَ حرمتها التي نهى الشرعُ عنها، حتى ينقلب الشعورُ بها ميلاً نفسيًّا نحوها دون وعيٍ بخطرها، ويُوهِم أنّ المفسدة يسيرةٌ وأنّ التوبة قريبة، فإذا سنحت الفرصةُ انهدم الحاجز، ولهذا جاءَ التنزيلُ بالنهي عن مقاربةِ بعض الذنوب لا عن فعلِها فحسب، قال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وحذّر من خطواتِ الشيطان، فقال جلّ شأنه: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]؛ لأنّ الخطوةَ الأولى فكرةٌ مُسترسَلٌ فيها، ثم تتلوها خطوات.
وضابطُ الباب أنّ ما كان من الخواطرِ قهريّاً عارضاً ثم دُفع، فلا مؤاخذةَ فيه، بل العبدُ مأجورٌ على دفعه، أمّا الرضا بصورةِ الحرام في الخيال، وتتَبُّعُ وسائله، وبناءُ العزمِ عليه انتظاراً لفرصته، فذلك يُفسد الباطن، وكثيرٌ من مقدّماته محرَّمٌ بعنوانه إذا اشتملت على محرَّمٍ مستقلّ كالنظر المحرَّم، والخلوةِ المريبة، وتهيئةِ الوسائل.
وهنا يُفهم سرُّ التأكيدِ القرآنيّ على تهذيبِ الباطن قبل حركةِ الظاهر، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41]، فإنّ نهيَ النفس عن الهوى أوّله في دائرةِ الخواطر والخيالات.
وعلاجُ ذلك أن يُراقبَ العبدُ خواطرَه، فيقطعَ الفكرةَ عند بدء نشوئها، ويشغلَ ذهنَه بالمباح النافع، ويغُضَّ بصرَه عمّا يوقظُ الشهوة، ويقلّلَ من الخلواتِ الفارغة، ويعتصمَ بالذكر وتلاوةِ القرآن الكريم، ويبدّلَ البيئةَ والصحبةَ التي تُنمّي المعصية وتحثّ عليها، ويضعَ لنفسه عتباتٍ واقيةً على المنافذ التي تجرّ إليه مواردَ الضعف، فإذا لزم هذا النهج انقطعت أسبابُ الداعي الباطني، واستعادت النفسُ هيبةَ الحرام وكراهتَه.
والخلاصةُ، إنّ الإكثارَ من التفكّر في المعصية يوّلد الداعي ويُسقِط المهابة، فيجرّ صاحبَه إلى الوقوع عند أوّل سانحة، والنجاةُ في قطع الخواطر أوّلَ ورودِها، ووقايةِ منافذِ القلب المشرعة، والعملِ بسُنّةِ المراقبة والمحاسبة، فـ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}ً [الإسراء:36].
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.
مركز الدليل العقائدي