تفاصيل المنشور
- السائل - عبد اللطيف
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 24 مشاهدة
تفاصيل المنشور
يقول المؤرخون أنّ خلافة معاوية بن أبي سفيان كانت أمرًا واقعًا لا مجال لإنكاره، حيث إنّ عليًّا (رض) بعد معركة صفّين أقرّ له بولاية الشام، وإنّ الحسن بن علي (رض) صالحه وتنازل له عن الحكم تسع سنوات، وإنّ الحسين (رض) عاش تلك الحقبة دون أن يُعلن اعتراضًا عليه، ثم إنّ معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد قبل وفاته بأربع سنواتٍ ولم يُنقل أنّ أحدًا من كبار الصحابة أو أهل البيت رفض ذلك. فما الجدوى من إعادة الخوض في شرعية خلافته بعد مرور القرون؟ ولماذا يتحوّل هذا الموضوع التاريخي إلى قضية معاصرة تُثير الخلاف بين المسلمين؟ وهل من الصواب أن نبقى أسرى لصراعاتٍ مضت، بدل أن نوجّه اهتمامنا إلى حاضر الأمة ومستقبلها؟!
السائل
عبد اللطيف
يقول المؤرخون أنّ خلافة معاوية بن أبي سفيان كانت أمرًا واقعًا لا مجال لإنكاره، حيث إنّ عليًّا (رض) بعد معركة صفّين أقرّ له بولاية الشام، وإنّ الحسن بن علي (رض) صالحه وتنازل له عن الحكم تسع سنوات، وإنّ الحسين (رض) عاش تلك الحقبة دون أن يُعلن اعتراضًا عليه، ثم إنّ معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد قبل وفاته بأربع سنواتٍ ولم يُنقل أنّ أحدًا من كبار الصحابة أو أهل البيت رفض ذلك. فما الجدوى من إعادة الخوض في شرعية خلافته بعد مرور القرون؟ ولماذا يتحوّل هذا الموضوع التاريخي إلى قضية معاصرة تُثير الخلاف بين المسلمين؟ وهل من الصواب أن نبقى أسرى لصراعاتٍ مضت، بدل أن نوجّه اهتمامنا إلى حاضر الأمة ومستقبلها؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنّ القولَ بشرعيةِ خلافةِ معاويةَ بنِ أبي سفيان قولٌ لا أصلَ له في النقل، ولا يقبله عقل، بل هو من الأباطيل التي روّجتها السياسةُ الأمويةُ لتبرير سلطانها وجبروتها. فإنّ الإمامةَ ليست مقامًا دنيويًا يُنال بالغلبة أو الحيلة، وإنما هي منصبٌ إلهيٌّ يُنصَّب فيه الإمامُ من قِبَلِ اللهِ تعالى على لسانِ نبيّه (صلى الله عليه وآله)، كما نصّ على ذلك في يومِ الغدير بقوله: ((من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه))، وقد شهد كثيرٌ من علماء أهل السنة بدلالة هذا الحديث المتواتر على التنصيب، منهم الإمام الغزالي الذي قال في كتابه “سر العالمين”، ما نصه: ((لكن أسفرت الحجة وجهها، وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع، وهو يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر: بخ بخ يا أبا الحسن، لقد أصبحت مولاي وولي كل مؤمن ومؤمنة. فهذا تسليم ورضى وتحكيم، ثم بعد هذا غلب الهوى لحب الرياسة، وحمل عمود الخلافة، وعقود البنود، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيول، وفتح الأمصار؛ سقاهم كأس الهوى، فعادوا إلى الخلاف الأول، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا)) [سر العالمين الموجود ضمن رسائل الإمام الغزالي، ص483].
فكلّ من نازع الإمامَ المنصوصَ عليه كان باغيًا خارجًا عن الطاعة، ولا تُكسبه الغلبةُ شرعيةً، ولا تُسقط عن الإمام ولايتَه.
وأما ما نُقل من أنّ أميرَ المؤمنين عليًّا (عليه السلام) أقرّ لمعاويةَ بولايةِ الشام، فدعوى لا شاهدَ عليها، بل الثابتُ خلافُها؛ فقد كان معاويةُ ـ منذ أيّام عثمان ـ والياً متمرّدًا لا يخضع لأمرِ الخليفةِ الحقّ، واستمرّ في تمرّده بعد تولّي الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) منصبَ الخلافة، وقد جرت بينهما وقعةُ صفّين، ولم يثبت في المصادر المعتبرة عند المسلمين جميعًا أنّ الإمام أقرّه على ولايةٍ أو سلطةٍ بعد التحكيم، بل ظلّ يرى خروجه محضَ بغيٍ على الإمام المفترضِ الطاعة، حتى استُشهد الإمامُ (عليه السلام) وهو في جهادِ أهلِ البغي.
وأمّا صلحُ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام) فليس فيه أدنى اعترافٍ بشرعيةِ معاوية، بل كان صلحًا اضطراريًّا لحقنِ الدماءِ وصَونِ بيضةِ الإسلام، تمامًا كما صالحَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) قريشًا يومَ الحديبية، لا لأنّهم على حقٍّ، بل اتقاءً للفتنة. وقد نصّت بنودُ الصلح على ألّا يُسمّى معاويةُ بأميرِ المؤمنين، وأن تعودَ الخلافةُ إلى الإمامِ الحسن (عليه السلام) بعد موته، وأن لا يتعرّضَ لأحدٍ من شيعةِ عليٍّ (عليه السلام). وكلّها بنودٌ نقضها معاويةُ بلسانه، إذ قال على المنبر: ((يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجِّ؟ وقد علمت أنَّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون، ولكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم… وكلُّ شرطٍ شرطته فتحت قدميَّ هاتين)) [شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج١٦، ص١٥]، فبكلمتِه هذه أسقطَ بنفسِه كلَّ دعوى شرعيةٍ لخلافته.
وأمّا الإمامُ الحسينُ (عليه السلام)، فلم يكن ساكتًا عن الباطل، بل صبرَ على جَورِ معاويةَ تقيّةً وصَونًا لدماءِ المؤمنين، حتى إذا هلك معاويةُ وورّث الحكمَ لابنه الفاسق يزيد، فصدعَ الإمامُ بالحقّ، وأبانَ للعالم أنّ ما كان عند بني أُميّة لم يكن خلافةً راشدة، بل مُلكًا عَضوضًا قائمًا على القهرِ والظلم.
وأمّا ما يُقال من أنّ الصحابةَ أو آلَ البيت سلّموا لمعاوية، فباطلٌ كذلك؛ إذ لم يُسلّم أحدٌ منهم بشرعيته قط، وإنما سكتَ بعضُهم اضطرارًا أو خوفًا أو تقيّةً، وليس السكوتُ دليلًا على الرضا، فإنّ الحقَّ لا يُبطَلُ بالسكوت، ولا يُثبَتُ بالرهبة.
والنتيجةُ، أنّ خلافةَ معاوية كانت خلافةَ تغلّبٍ لا خلافةَ نصٍّ ولا شورى، وقد انقلبت فيها موازين الحقّ، وصارت وسيلةً للملك لا وسيلةً للهداية.
وأمّا الولايةُ التي يتمسّك بها الشيعةُ الإماميةُ الاثنا عشرية، فهي منصبٌ إلهيٌّ ثابتٌ لا تُبطله الظروفُ السياسية، لأنّ الإمامَ المنصوصَ عليه وليٌّ للهِ وإن غُصِبَ سلطانُه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، وهي من الآيات التي أجمع المفسّرون – من السنة والشيعة – على نزولها في أمير المؤمنين (عليه السلام).
وليس الحديثُ عن شرعيةِ الخلافة والولاية نزاعًا على أمواتٍ مضَوا، بل هو دفاعٌ عن الحقِّ الذي بُدّل، وعن مبدأِ العدلِ الذي أُهدِر، إذ من شرّع لبني أُميّة بالأمس يشرّع اليومَ لكلّ طاغيةٍ باسم الغلبة، فالقضيةُ ليست طائفية، بل هي قضيةُ دينٍ وعدلٍ وحقٍّ ثابتٍ لا يتبدّل بتبدّل الزمان.
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.