مركز الدليل العقائدي

حضورٌ معجزٌ للإمام السجاد (ع) في كربلاء لدفن الأجساد الطاهرة

السائل

نبيل الواسطي

تفاصيل المنشور

السؤال

كيف تمكّن الإمامُ السجاد (عليه السلام) من العودة إلى كربلاء لدفن جسد أبيه الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأنصاره، على رغم الظروف الصعبة التي واجهها عند بني أمية؟ وما الطريقة التي استخدمها للعودة إلى مكانه بعد دفنهم؟ وهل لَحظ السجانون غيابَه عند العودة؟

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..
هذه الحادثة قد تثير استغراب بعض الأشخاص الذين لم يُوْلوا انتباهًا كافيًا لآيات القرآن الكريم. ولكنْ عندما يلقون نظرةَ تدبُّرٍ في آياته، يكتشفون أنه قد حدث مع الأنبياء وغير الأنبياء مواقفُ أكثر غرابةً من تلك التي حدثت مع الإمام السجاد (عليه السلام). ومن بين هذه المواقف، قصة “الذي كان عنده علم من الكتاب”، وهو آصف بن برخيا الذي أحضر عرش بلقيس من ‏اليمن إلى بيت المقدس قبل أن ‏يرتدَّ طرفُ نبيِّ الله سليمان (عليه ‏السلام) في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [سورة النمل:40] ، وأكد القرطبي في تفسيره على أن الذي كان عنده علمٌ من الكتاب‏ هو “آصف بن برخيا” وهو قول أكثر المفسرين، قائلًا: ‏((أكثر المفسرين على أنّ الذي عنده علمٌ من الكتاب ‌آصف ‌بن ‌برخيا، وهو من بني إسرائيل، وكان ‏صدّيقًا يحفظ اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى)) [الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص204]‏.
وقال الطبري في تفسيره: ((حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: «قال عفريت» لسليمان «أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وإني عليه لقويٌّ أمين» فزعموا أن سليمان بن داود قال: أبتغي أَعجَل من هذا، فقال ‌آصف ‌بن ‌برخيا، وكان صدِّيقًا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دُعي الله به أجاب، وإذا سُئل به أعطى: «أنا» يا نبي الله «آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك»)) [تفسير الطبري، ج19، ص466].
وهكذا أكد البغوي في تفسيره بأنه قول أكثر المفسرين: ((وقال أكثر المفسرين: هو ‌آصف ‌بن ‌برخيا، وكان صدِّيقًا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى)) [تفسير البغوي، ج6، ص164].
و”آصف بن برخيا” كان وزيرًا لسليمان (عليه السلام) ولم يكن نبيّاً كما هو ‏ثابت في “موسوعة الوافي” للكاشاني، و”البداية والنهاية” لابن كثير ‏ وغيرهما. [الوافي، للكاشاني، ج3، ص621؛ البداية والنهاية، لابن كثير، ج2، ص‏‏28].
وهذا الفعل الذي قام به “آصف بن برخيا” بإحضار عرش بلقيس في طرفة عين يعدّ تجلِّيًا للولاية التكوينية التي منحها الله له. والقول بالولاية التكوينية لغير الأنبياء هو أمر ثابت كتابًا وسُنّة.
والمراد بالولاية التكوينية هو أن الله سبحانه وتعالى يمنح النبيّ أو الوليّ القدرة على التصرف في الظاهرة الكونيّة خلافَ نظامِ العلّيّة المتعارَف، ممّا لا يتنافى والاختيار في التكليف للناس، وذلك كما في إعطاء القدرة لنبي الله داود عليه السلام في تليين الحديد بيديه المجردتين وعمل دروع سابغات يعتاش منها.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10-11].
قال ابن كثير في «البداية والنهاية»: ((وأما إلانةُ الحديد بغير نارٍ كما يُليِّن العجين في يده، فكان يصنع هذه الدروع الداودية، وهي الزرديات السابغات، وأمره الله تعالى بنفسه بعملها، «وقدر في السرد» أيْ ألا يدقّ المسمار، فيعلق، ولا يعظله فيفصم، كما جاء في البخاري)) [البداية والنهاية، ج6، ص318].
وأيضًا كما في إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وإبراء الأكمه والأبرص لنبي الله عيسى عليه السلام، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله} [آل عمران:49].
فالولاية التكوينية هي قدرةٌ إعجازية، يمنحها المولى سبحانه لأنبيائه وأوليائه، وهي قد تمنح تفضلًا منه سبحانه على المتقين من عباده كما هو مقتضى الحديث الصحيح الوارد في البخاري وغيره: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه)) [صحيح البخاري، ج7، ص190‏].
ورواه بلفظه ثقة الإسلام الكليني في “أصول الكافي” ‏ بسنده عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله عز ‏وجل. [أصول الكافي، ج2، ص352‏، الحديث السابع].
ويقول ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: ((وقد جاء في الأثر: يا عبدي، أنا أقول للشيء: كن، فيكون، أطعْني أجعلْك تقول للشيء: كن، فيكون، يا عبدي، أنا الحي الذي لا يموت، أطعني أجعلْك حيًّا لا تموت. وفي أثرٍ أنّ المؤمن تأتيه التحف من الله من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت، فهذه غايةٌ ليس وراءها مرمى، كيف لا؟ وهو بالله يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي، فلا يقوم لقوته قوة)) [مجموع الفتاوى، ج4، ص377].
إذاً، موضوع الولاية التكوينية والمِنح الربّانية التي يمنحها الله لعباده المتقين في التصرف في الظاهرة الكونية، بخلاف المتعارف، هو أمر مسلّم وثابت في القرآن الكريم والسنة الشريفة وأقوال العلماء من الفريقين.
وبلحاظ ما تقدّم نقول: ثبت في مروياتنا أنَّ الله عزّ وجل قد منح أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الولاية ‏التكوينية، وثبت في مروياتنا – أيضاً – ‏أنَّ الإمام المعصوم لا يلي ‏أمره عند وفاته من تغسيل أو دفن ونحو ذلك إلّا إمام معصوم. [يُنظر: الكافي، ج1، ص384، وعيون أخبار الرضا، للصدوق، ج2، ص‏‏276، وبحار الأنوار، ج27، ص288].
وفي خصوص دفن الإمام السجاد (عليه السلام) لأبيه الإمام الحسين (عليه السلام) فقد وردت ‏جملةٌ من الروايات تفيد أنّه ‏(عليه السلام) ‏قد حضر بقدرةٍ إعجازيةٍ لدفن أبيه في ‏كربلاء مع أنّه كان محبوسًا في الكوفة، منها هذه الرواية التي يحتجّ ‏فيها الإمام الرضا ‏(عليه السلام) ‏على الواقفية، فقال ‏لهم: أنا حضرتُ لتولّي أمر والدي موسى بن جعفر ‏(عليه السلام) ‏الذي كان محبوسًا ‏في سجن هارون الرشيد في بغداد وإن كنتُ أنا في المدينة كما تولّى علي ‏بن الحسين ‏(عليه السلام) ‏دفن أبيه الحسين ‏(عليه السلام) ‏في كربلاء مع أنّه كان محبوسًا في ‏الكوفة، وهذا نصُّ الرواية:‏
روى الكشي بسنده عن عليِّ بن أبي حمزة البطائني أنّه قال للإمام ‏الرضا ‏(عليه السلام): ((‏إنَّا روينا عن آبائك أنَّ الإمام لا يلي أمره إلّا إمامٌ مثله. فقال له ‏أبو الحسن الرضا ‏(عليه السلام): فأخبرني عن الحسين بن عليّ ‏(عليه السلام) ‏كان إمامًا أو كان ‏غير إمام؟ قال: كان إمامًا، قال ‏(عليه السلام): فمن وليَ أمره؟ قال: عليُّ بن الحسين ‏‏‏(عليه السلام). قال: كان محبوسًا بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد. قال: خرج، وهم ‏لا يعلمون حتى وَليَ أمر أبيه ثمَّ انصرف. فقال أبو الحسن ‏(عليه السلام): إنَّ هذا ‏أمكن عليَّ بن الحسين ‏(عليه السلام) أنْ يأتي إلى كربلاء، فيلي أمر أبيه، فهو يُمكِّن ‏صاحب هذا الأمر أنْ يأتي بغداد، فيلي أمر أبيه، ثمَّ ينصرف، وليس في ‏حبسٍ ولا أسر)). [رجال الكشي، ج2، ص764]، وتوجد في هذا الجانب ‏روايات أخرى غيرها.‏
لا عجب أن حضر الإمام السجاد (عليه السلام) دفن أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) مع بني أسد في كربلاء، على رغم أنه كان مسجونًا عند ابن زياد في الكوفة.
فقد نقلت مصادر أهل السنة حادثةً أخرى عن الإمام السجاد (عليه السلام) وكيف افتقده سجّانوه الموكَّلين بحمله من المدينة إلى الشام بأمرٍ من عبد الملك بن مروان. ولم يجدوا سوى الحديد في موضعه وحضوره عند عبد الملك في الشام، وقد شهد عبد الملك نفسه بذلك، فقد روَوا عن ابن شهاب الزهري أنه قال: ((شهدت علي بن الحسين يوم ‏حمَله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديدًا، ووكل ‏به حُفّاظًا في عدةٍ وجمْعٍ، فاستأذنتُهم في التسليم عليه والتوديع له، ‏فأذنوا لي، فدخلتُ عليه، وهو في قبةٍ والأقيادُ في رجليه، والغلُّ في ‏يديه، فبكيتُ، وقلت: وددتُ أني في مكانك، وأنت سالم، فقال لي: يا ‏زهري، أ وَتظنُّ هذا ممّا ترى عليَّ، وفي عنقي مما يكربني؟ أما لو شئت ‏ما كان، وأنّه إن بلغ بك وبأمثالك غمر ليذكر عذاب الله، ثمَّ أخرج ‏يده من الغلِّ ورجليه من القيد، ثمَّ قال: يا زهري، لا جزْتُ معهم ذا ‏منزلتين من المدينة، قال: فما لبثنا إلّا أربع ليال، حتّى قدم الموكّلون ‏به يطلبونه من المدينة، فما وجدوه، فكنت في من سألهم عنه، فقال ‏لي بعضهم: إنّا نراه متبوعًا، إنّه لنازلٌ، ونحن حوله، لا ننام نرصده، ‏إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدة.‏
قال الزهري: فقدمتُ بعد ذلك على عبد الملك بن مروان، فسألني ‏عن علي بن الحسين، فأخبرتُه، فقال لي: إنّه جاءني في يوم فقَدَه ‏الأعوان، فدخل عليَّ، فقال: ما أنا وأنت، فقلت: أقم عندي، فقال‏‏: لا أحبّ، ثمَّ خرج، فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة)) [تاريخ دمشق، ‏لابن عساكر، ج41، ص372؛ حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني، ج‏‏3، ص135؛ مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، لسبط بن الجوزي، ج10، ص54؛ مطالب السؤول، لابن طلحة الشافعي، ص412؛ المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، لابن الجوزي، ج6، ص331؛ الصواعق ‏المحرقة، لابن حجر الهيتمي، ج2، ص583]. ‏
فهذه النصوص وغيرها تكشف بوضوحٍ أنّ الإمام السجاد ‏‏‏(عليه السلام)‏ عاد إلى كربلاء ‏ليدفن جسد أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأجساد الشهداء، بقدرةٍ إعجازيةٍ بما منحه الله سبحانه من ولايةٍ تكوينيةٍ، وحسب عقيدتنا ‏الثابتة بأنّ المعصوم لا يلي أمرَه عند موته إلّا المعصومُ.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.