تفاصيل المنشور
- المستشكل - رضوان الموصلي
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 43 مشاهدة
تفاصيل المنشور
لقد صحّ عن النبي قوله: اقتدوا باللذينَ من بعْدِي أبي بكرٍ وعمرَ، ولم يقل: اقتدوا بعلي بن أبي طالبٍ، فما لكم كيف تحكمون؟
المستشكل
رضوان الموصلي
لقد صحّ عن النبي قوله: اقتدوا باللذينَ من بعْدِي أبي بكرٍ وعمرَ، ولم يقل: اقتدوا بعلي بن أبي طالبٍ، فما لكم كيف تحكمون؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهرين..
فعن قولك: (لقد صحّ عن النبي قوله: اقتدوا باللذينَ من بعْدِي أبي بكرٍ وعمرَ)، نقول:
هذه الرواية لم تثبت، ولم تصح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجميع طرقها ضعيفة، وقد طعن فيها جمعٌ من علماء أهل السُّنة، وحكموا بعدم صحتها وبطلانها.
فقد أعلّها أبو حاتم الرازي، وحكم بعدم صحّتها كلٌّ من البزار وابن حزم، قال المناوي في فيض القدير: ((وأعلّه أبو حاتم، وقال البزار كابن حزم: لا يصح؛ لأن عبد الملك لم يسمعه من ربعي، وربعي لم يسمعه من حذيفة)) [فيض القدير، ج2، ص56].
وممن طعن في هذه الرواية “ابن حزم الأندلسي” في كتابه “الإحكام”، فقال: ((وأما الرواية «اقتدوا باللذين من بعدي» فحديثٌ لا يصح؛ لأنه مرويٌّ عن مولى لربعي مجهول، وعن المفضل الضبّي، وليس بحجة)) [الإحكام، ج6، ص242].
وقال أيضًا في كتابه “الفِصَل”: ((ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحًا، أو أبلسوا أسفًا لاحتججنا بما روي “افتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر”، ولكنه لم يصح، ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح)) [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج4، ص88].
وقال الهروي الشافعي في “الدر النضيد”: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. باطل)) [الدر النضيد، ص97].
وقال العلامة “حسان بن عبد المنان” بعد أن أشار إلى بعض طرق رواية حذيفة: ((قلت: فهذه الروايات فيها اضطرابٌ شديد، مدارها على هلال مولى ربعي بن حراش، وهو مجهول، أما من أسقطه بين عبد الملك وربعي فخطأ)) [حوار مع الشيخ الألباني، ص152].
وقال أيضًا: ((وأما رواية عمرو بن هرم فمدارها على سالم، أبو العلاء المرادي، وهو ضعيف، وقد لا يكون عمرو بن هرم سمعه من ربعي، فإنه لا رواية له، يصرّح عنه بالسماع)) [المصدر السابق].
وأما رواية أبي الدرداء فقد أخرجها الهيثمي في مجمع الزوائد عن الطبراني، قال: ((وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر؛ فإنهما حبل الله الممدود، ومن تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها))، ثم قال الهيثمي: ((رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم)) [مجمع الزوائد، ج9، ص53].
وقال الغزالي في سياق رده على من ادّعى حجّيّة قول الصحابيّ، بعد أن أورد الآراء فيها: ((وقومٌ إلى أنّ الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي» وقومٌ إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا، والكل باطل عندنا، فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته عنه، فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟ وكيف يتصور عصمة قومٍ، يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم)) .. إلخ [المستصفى، الغزالي، ص ١٦٨].
ويقول الدكتور ديب البغا، وهو بصدد بيان أدلّة النافين لحجّيّة مذهب الصحابيّ: ((…أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كلّ واحدٍ من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر، فلم ينكر أبو بكر وعمر على مخالفيهما بالاجتهاد، بل أوجبوا على كلّ مجتهد في مسائل الاجتهاد أن يتّبع اجتهاد نفسه، ولو كان مذهب الصحابيّ حجّة لما كان كذلك، ولكان يجب على كلّ واحد منهم اتّباع الآخر، وهو محال)) [أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلاميّ، للدكتور مصطفى ديب البغا، ص347].
فلو كان صحّ أو ثبت ما نُسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّه أمر بلزوم اتّباع سنّة الشيخين بقوله: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر..))، لما خالف الصحابة أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بلزوم سنة الشيخين من بعده، كما قد عرفت ذلك من قول الغزالي والدكتور البغا.
وأما عن قولك: (ولم يقل: اقتدوا بعلي بن أبي طالب)، نقول:
إنَّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثبت لعليّ (عليه السلام) في يوم غدير خم الأولوية على المؤمنين من أنفسهم، التي تعني نفوذ حكمه عليهم، ولزوم إطاعتهم له، وهذا أمر واضح لا يغالط فيه إلّا من سلب الله منه نعمة الفهم السليم!!
فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام الألوف من الصحابة يوم غدير خم: ((من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)) وهذا الحديث متواتر، نصّ على ذلك جمعٌ كبير من علماء أهل السنّة، نذكر منهم:
-السيوطي في “قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة”. [قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة، ص227].
– الذهبي في “سير أعلام النبلاء”. [سير أعلام النبلاء، ج8، ص335].
-الكتاني في “نظم المتناثر من الحديث المتواتر”. [نظم المتناثر من الحديث المتواتر، ص206].
-الزبيدي في “لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة”. [لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة، ص205].
-الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة”. [سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج4، ص343]، وغيرهم كثير.
وقد أثبت الإمام الغزالي دلالة حديث الغدير على الخلافة وبيّن انقلاب الصحابة، فقال في كتابه “سر العالمين”: ((لكن أسفرت الحجّة وجهها، وأجمع الجماهير على متن الحديث، من خطبته في يوم غدير خمّ، باتّفاق الجميع، وهو يقول: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. فقال عمر: بخٍ بخ يا أبا الحسن، لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. فهذا تسليم ورضا وتحكيم، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحب الرياسة، وحمل عمود الخلافة، وعقود البنود، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيول، وفتح الأمصار؛ سقاهم كأس الهوى، فعادوا إلى الخلاف الأوّل، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا)) [مجموعة رسائل الإمام الغزالي، كتاب سر العالمين، ص483].
وقد أوضح النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا المطلب ببيانٍ واضح وصريح حين قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)) [مختصر صحيح الجامع الصغير، للسيوطي والألباني، رقم الحديث:1726-2458].
وحين قال: ((إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله، حبل ممدود ما بين الأرض والسماء، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض)) [صحيح الجامع الصغير، للألباني، ج1، ص482؛ مسند أحمد بن حنبل، برقم:21654، تصحيح شعيب الأرناؤوط].
فهذا الحديث العظيم، والمعروف بحديث الثقلين، الذي صححه على اختلاف طرقه وألفاظه كثير من جهابذة الحديث عند أهل السنّة، أمثال: ابن حجر العسقلاني، والهيتمي، وابن كثير، والطحاوي والحاكم، والبوصيري، وشعيب الأرناؤوط. [انظر على الترتيب: المطالب العالية، ج4، ص65، برقم:3972؛ الصواعق المحرقة، ج2، ص439؛ تفسير ابن كثير، ج12، ص271؛ شرح مشكل الآثار، ج5، ص18؛ المستدرك على الصحيحين، ج3، ص148؛ إتحاف الخيرة المهرة، ج9، ص279؛ مسند أحمد، تصحيح الأرناؤوط، حديث رقم: 11104].
يستفاد منه أنّ هناك مرجعية عيّنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للأمّة من بعده يكون التمسك بها منقذًا للأمّة من الضلال، وهذه المرجعية هي العترة الطاهرة، وهي مرجعية معصومة بنصّ حديث الثقلين الذي قال: إنّها لا تفارق القرآن، ولا يفارقها إلى يوم القيامة، فالقرآن الكريم هو قرآن معصوم بنصّ قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:41-42]، فكذلك يكون حال من لا يفارقه، ولا يفترق عنه أبدًا، وإلّا حصل الفراق بينهم وبين القرآن بأدنى مخالفة أو معصية منهم، وهو خُلف مضمون الحديث.
قال المناوي الشافعي في “فيض القدير”: ((وعترتي أهل بيتي، تفصيل بعد إجمال بدلًا أَو بيانًا، وهم أصحاب الكسـاء الّـذين أذهب الله عنهـم الرجـس، وطـهـّرهم تطهيـر)) [فيض القدير في شرح الجامع الصغير، ج3، ص19].
والنتيجة: أنه قد صح متواترًا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر بلزوم الاقتداء بعلي (عليه السلام) والتمسك به.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.