تفاصيل المنشور
- السائل - نور علي
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 146 مشاهدة
تفاصيل المنشور
اسمع بعض المخالفين يقول أراد الله أن يُقتل الحسين في كربلاء شهيداً رفعاً لدرجته في الجنّة … فهل مثل هذا الكلام صحيح ، أي أنّ الله عزّ وجل هو أراد قتل الحسين ( عليه السلام ) ؟
السائل
نور علي
اسمع بعض المخالفين يقول أراد الله أن يُقتل الحسين في كربلاء شهيداً رفعاً لدرجته في الجنّة … فهل مثل هذا الكلام صحيح ، أي أنّ الله عزّ وجل هو أراد قتل الحسين ( عليه السلام ) ؟
الأخت نور المحترمة ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا الكلام هو خلط واضح بين القدَرِ والجبر ، وجهل محض بباب القضاء والقدَر ، فالقدَر يعني تقدير الأمور ووضع حدودها وبداياتها ونهاياتها ، والقضاء يعني حصول ما تمّ تقديره على أرض الواقع ، وهو لا يعني الجبر ، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مختاراً في أفعاله ، أمَرَهُ بالخير ونهاهُ عن الشرّ ، وإذا صدر الشرّ من الإنسان – كالقتل ظلماً والسرقة والزنا ونحو ذلك – فهو مسؤول أمام الله سبحانه عن فعله هذا وسيحاسب عليه وينال جزاءه .
وتفسير القدر بالجبر هي عقيدة شركية أفصح عنها القرآن الكريم بشكل واضح في جملة من آياته، قال تعالى في سورة الأنعام : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء }.( الأنعام : 148 ) .
فهنا نجد المشركين يسندون شركهم إلى إرادة الله ومشيئته وأن المشيئة الإلهية هي التي جعلتهم مشركين .
إلا أن القرآن الكريم يفند هذه الدعوى ويدحضها بقوة ، يقول تعالى : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } ( الأنعام : 148 ).
ويقول تعالى في آية أخرى : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ، قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف :28).
فهنا تجد المشركين يحملون فعلهم للفواحش على أنّه أمر من الله عزّ وجل ولكنه سبحانه يفند دعواهم ويرميهم بالجهل والتقول على الله بما لا يعلمون .
قد تقول : فما معنى قوله تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ }الحشر :5، وقوله تعالى : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا }التوبة : 51.. ألا يعني هذا أنّ أفعال الإنسان مكتوبة وهي تجري بمشيئة الله وإرادته ؟!
نقول : كون أفعال الإنسان مكتوبة ليس معناه أنّ الله سبحانه جبر الإنسان على القيام بها ، بل معناه أنَّ الله سبحانه يعلم في علمه الأزلي بأنَّ هذا الفعل سيصدر من الإنسان باختياره وهو سبحانه قد كتبه بهذه الصفة ، أي صفة صدور هذا الفعل من الإنسان باختياره ، ومعنى كونها تجري بإذن الله ، أي تجري تحت سلطته ، فلا يُعصى الله سبحانه مغلوباً ، بل كلّ ما يجري في هذا الكون يكون بعلمه وتحت سلطته ، إن شاء ترك الإنسان يقوم بما يريد من أفعال باختياره لينال استحقاقه عليها من الثواب والعقاب ، وإن شاء يحول بين المرء وقلبه ويفسخ عزائمه عن فعل ما يريد ، كما لو أراد إنسان مثلاً أن يفني الأرض كلّها وينهي هذا الوجود نهائياً قبل يوم القيامة بما يملك من أسلحة نووية فتاكة وقاتلة فهل يقدر على فعل ذلك ؟!
الجواب : لا يمكنه ذلك ، وسيحول الله سبحانه بين هذا الإنسان وفعله ؛ لأنّه يخالف المحتوم الذي أخبر به القرآن الكريم والأحاديث المتواترة بأنَّ نهاية الدنيا ستكون يوم القيامة ولا أحد غير الله سبحانه يستطيع إنهاء هذا الوجود نهائياً قبل اليوم المذكور .
فهذا هو معنى أنّه لا شيء يجري في هذا الكون إلّا بإذنه سبحانه ، أي لا شيء يجري إلّا بعلمه وتحت سلطته ، فلا يعصى الله مغلوباً وفي الوقت نفسه لا يُطاع جبراً لأنّ مقتضى الحكمة الإلهية أن يكون الإنسان مختاراً في أفعاله حتّى يجري في حقّه قانون الثواب والعقاب بشكل عادل .
ولكننا للأسف وجدنا هذه العقيدة الشركية ( تفسير القدر بالجبر ) قد تبناها الكثيرون من أهل السنّة ؛ إذ وجدنا الكثير من هذا الخلط في موروث رموزهم وخلفائهم .. يروي السيوطي في ” تاريخ الخلفاء” عن عبد الله بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال : ( أرأيت الزنا بقدر ؟
قال : نعم .
قال [ الرجل ] : فإن الله قدّرني عليه ثم يعذبني ؟!!
قال [ أبو بكر ]: نعم يا بن اللخناء ، أما لو كان عندي إنسان أمرته أن يفأ أنفك ) . ( تاريخ الخلفاء : 95).
فهنا نجد السائل يسأل الخليفة عن الزنا الذي يرتكبه الإنسان هل هو تقدير من الله وجبر ، فيقول له الخليفة : نعم . فيتعجب السائل من جوابه بأنّه كيف يقدّر الله سبحانه الفعل على العبد ثمّ يعاقبه عليه ؟!
ولمّا لم يكن الخليفة قادراً على الجواب لم يجد غير الشتيمة والتقريع مهرباً من الموقف !!
وفي صحيح البخاري ينقل عن أبي قتادة تفاصيل هزيمة المسلمين يوم حنين ، فيقول : وانهزم المسلمون وانهزمت معهم ، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس ، فقلت له : ما شأن الناس ؟! فقال : أمر الله . ( صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، حديث 4322)
وهكذا نجد مثل هذه العقيدة في حمل أفعال الناس على الجبر بلحاظ التقدير الإلهي عند عائشة عندما حاججها أحد الأشخاص في موضوع خروجها على أمير المؤمنين علي (عليه السلام )وحصول تلك المقتلة العظيمة في حرب الجمل ، فقالت له : (( أمر الله قدرا مقدورا ، وللقدر أسباب )) ( تاريخ بغداد – للخطيب البغدادي – 1: 160).
وهكذا تمتد عقيدة الجبر إلى الأمويين حين اتخذوها مرتكزا لهم في تثبيت ملكهم وتنصيب حكامهم وتبرير أفعالهم .
يروي ابن قتيبة في ” الإمامة والسياسة ” عن معاوية أنّه أراد تنصيب ابنه يزيد بن معاوية خليفة من بعده ، فاعترض عليه عبدالله بن عمر فقال له معاوية : (( إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دمائهم ، وأن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم )) ( الإمامة والسياسة 1: 171) .
وهذا بيان واضح من معاوية بأنّه يرى القضاء والقدر جبر من الله في الأفعال .
يقول أبو هلال العسكري في كتابه ” الأوائل ” : (( إن معاوية أوّل من زعم أن الله يريد أفعال العباد كلّها )) ( الأوائل 2 : 125).
وفي هذا الصدد يقول أحد الكتاب المصريين المعاصرين :
(( إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ولكن بأيديولوجية تمس العقيدة في الصميم ، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين علي قد احتكما فيها إلى الله فقضى الله له على علي ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز ، اعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاءً من القضاء لليس للعبد خيرة من أمرهم ، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين أنّ كلّ ما يامر به الخليفة حتّى ولو كانت طاعة الله في خلافه فهو قضاء من الله قد قدّر على العباد ) . انتهى ( نظرية الإمامة – للدكتور أحمد محمود صبحي – : 334)
وبنفس المعنى فسّر عمر بن سعد قتله للحسين ( عليه السلام ) عندما اعترض عليه عبدالله بن مطيع العدوي بقوله : اخترت همدان والري على قتل ابن عمك . فقال عمر بن سعد : (( كانت أمورا قضيت في السماء )) ( الطبقات – لابن سعد – 5: 148 ).
ولم يقتصر الحال على الخلفاء والحكّام والأشخاص عند أهل السنّة على تبني هذه العقيدة الشركية ( تفسير القدر بالجبر ) بل وجدناها قد تسرّبت إلى الموروث الروائي عندهم بشكل كبير ، فقد روى البخاري ومسلم روايات عديدة يستفاد منها الجبر بحجّة التقدير ، منها ما رواه البخاري في صحيحه :
( احتج آدم وموسى ، فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيّبتنا ، وأخرجتنا من الجنة ، فقال له آدم : ياموسى ، اصطفاك الله بكلامه ، وخطّ لك بيده ، أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة ). (صحيح البخاري ، ج8 ، باب في القدر ، ص122)
ويروي مسلم في صحيحه عن سراقة بن مالك بن جعشم أنّه قال :
( بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن ، فيم عمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟ أم فيما يستقبل ؟
قال : لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير .
قال : فيم العمل ؟
قال: اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له ، وكل عامل بعمله ) ( صحيح مسلم ج8 ص 44)
ومثل هاتين الروايتين تجد عشرات الروايات التي وردت في مصادر الحديث عند أهل السنة وهي تفسّر القدر بالجبر وأنّ الإنسان محكوم، مقهور في أفعاله ، يمضي لما كتب له فقط .
وإلى هذه الحقيقة يشير أحد علماء أهل السنّة المعاصرين – الشيخ محمد الغزالي – في كتابه ” السنة النبوي بين أهل الفقه وأهل الحديث ” : (( والغريب أنّ جمهوراً كبيراً من المسلمين يجنح إلى هذه الفرية ، بل أنّ عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر باختيار خافت موهوم … وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها ، وكانت سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع )) . ( السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : 144)
وهذا المعنى بخلافه في مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) حيث تراهم يذمّون من يفسّر القضاء والقدر بالجبر .
جاء في كتاب “الصراط المستقيم ” لعلي بن يونس العاملي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( سيأتي زمان على أمتي يؤولون المعاصي بالقضاء ، أولئك بريئون مني وأنا منهم براء ) .( الصراط المستقيم : 32)
وفي توحيد الصدوق ( عليه الرحمة ) :جاء عن النبي (ص) قوله : ( في كلّ قضاء الله عز وجل خيرة للمؤمن ). ( التوحيد – للشيخ الصدوق – : 371)
وهنا نجد النبي (ص) يصرّح بأنّ القضاء لا ينافي الإختيار ، خلاف الفهم المتقدّم الذي يسلب الإختيار من الإنسان ويجعله مجبورا على أفعاله بحجّة القدر المقدور عليه .
ويروى الأصبغ بن نباته أن أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) عدل من حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له :يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله ؟!
قال : أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل . ( التوحيد : 369)
فهنا نجد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوضح لنا بأنّ القدر لا ينافي الاختيار ، بل تفسير القدر بالجبر والتسليم هو المنافي للدين ، كما جاء عن النبي (ص) : ( خمسة لا يستجاب لهم : أحدهم مرّ بحائط مائل وهو يقبل إليه ولم يسرع المشي حتى سقط عليه ) ( بحار الأنوار ، باب القضاء والقدر ج5 ص 105) .
وقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل ) معناه : أفرّ من قضاء الله الذي قضى بسقوط هذا الجدار لحضور أسبابه إلى ما قدّره الله لي من الاختيار في عملي بالتنحي والنجاة من هذا الجدار المائل .
ودمتم سالمين