تفاصيل المنشور
- السائل - السيد علي البعاج
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 19 مشاهدة
تفاصيل المنشور
ما الرد المناسب على المخالفين في دعواهم أن البخاري ومسلم أصح كتابين بعد كتاب الله؟
السائل
السيد علي البعاج
ما الرد المناسب على المخالفين في دعواهم أن البخاري ومسلم أصح كتابين بعد كتاب الله؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
كان لِمقولَةِ اعتبارِ الصحيحين أصحّ الكتب بعد كتاب الله، تأثيرٌ كبير على عقائد علماء أهل السُّنة، بما في ذلك عامة الناس، مما جعلهم يواجهون صعوبةً في التعامل مع الأحاديث النبوية التي لم ترِد في الصحيحين، ممّا أدّى إلى تناقضات في قبولهم ورفضهم لها والعمل بها، كيف يمكن لمقولةٍ مُختلَقةٍ أن تحدِّد صحة أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ضعفها، وتُهمل بذلك المعايير العلمية والقواعد المنطقية التي وضعها العلماء لتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها؟!
فنجد مثلًا من كبار علمائهم النووي في شرح مسلم، يقول: ((اتّفق العلماء رحمهم الله على أنّ أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقَّتْهما الأمة بالقبول)) [شرح النووي على مسلم، ج1، ص14].
وابن الملقّن في الإعلام، يقول: ((واتّفق العلماء على أنّ أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكتاب البخاري أصح منه عند الجمهور، وخالف أبو علي النيسابوري، فقال: ما تحت أديم السماء أصحَّ من كتاب مسلم، ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب)) [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، ج1، ص127].
وإذا ما بحثنا عن أصل هذه المقولة، سنجد روايتين مختلفتين في الدافع إلى تأليف البخاري صحيحَه، ففي الرواية الأولى، يروي ملا علي القاري في كتابه المرقاة عن البخاري قوله: ((قال البخاري: والحامل لي علي تأليفه أنني رأيتُني واقفاً بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم وبيدي مروحة أذبُّ عنه، فعبَّر لي بأني أذبُّ عنه الكذب)) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ج1، ص58، تـ. عيتاني، دار الكتب العلمية – ط. الأولي، 1422هـ – 2001م. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، ج1، ص29، ط. السابعة، ١٣٢٣هـ].
أما في الرواية الثانية، فيقول القِنَّوجي (تـ ١٣٠٧هـ) في كتابه الحِطة: ((قال البخاري: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال لي بعض أصحابه: لو جَمع أحد كتابًا مختصرًا في السنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بلغتْ من الصحة أقصى درجاتها كان أحسن، وتيسَّر العمل عليه للعاملين من دون مراجعة إلى المجتهدين، قال: فوقع ذلك في قلبي، وأخذ بمجامع خاطري، فصنفت هذا الجامع الصحيح)) [الحطة في ذكر الصحاح الستة، للقِنَّوجي، ص178، ط. الأولى، ١٤٠٥هـ – ١٩٨٥م].
فالقصة في الرواية الأولى رؤية البخاري لنفسه في المنام واقفًا بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يذبُّ عنه الكذب. فعدَّ البخاري هذا المنام بمثابة حثٍّ إلهيٍّ له على تأليف كتاب يذبّ فيه عن السُّنة النبوية من الأحاديث الموضوعة.
وأما القصة في الرواية الثانية فهي أنّ البخاري سمع اقتراح أحدِ أصحاب إسحاق بن راهويه بتأليف كتابٍ مختصر يضمُّ الأحاديث الصحيحة، فانتاب البخاريَّ شعورٌ بقيمة جمع الأحاديث الصحيحة في كتاب واحد تيسيرًا على العاملين بها.
ومن هذا التناقض بين الروايتين حولَ الدافع إلى تأليف البخاري لصحيحه، يتضح أنّ مقولة أن صحيحه أصح الكتب بعد كتاب الله لا أساس لها. وسنأتي على ذكر ما يكذِّب القصة الأولى، مثل اعتقاد البخاري بصحة حديث أنّ المعوذتين ليستا من القرآن، وغيرها من الأمور التي نقدها كثيرٌ من علماء أهل السُّنة، وعدّوا بعضها مخالفات شرعية تقرِّر تحريف القرآن، وتبثُّ عقيدة التشبيه والتجسيم والإساءة إلى مقام النبوة.
ومن هنا أيضًا يُعلم أنه لم يدَّع البخاري ولا مسلم أن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله، وإنّ هذه المقولة أطلقها بعضُ العلماء، وصدّقها العامة من أهل السنة والجماعة، ولم يخطر ببالهما أنّ العلماء من بعدهما سيزعمون أنّ كتابيهما أصحّ الكتب بعد القرآن.
ورغم الأساس المتناقض، إلا أن ذلك لا يمنع من الاستمرار على تصديق الكذبة، فتسابق القوم فيما بينهم كلٌّ يَنسب البخاري إلى مذهبه، فنسب بعضُهم البخاري إلى مذهبه، قال محمد أنور الكشميري: ((وأما مذهب أرباب الستة الصحاح فقيل: إن البخاري شافعي؛ لأنه تلميذ الحميدي، وهو تلميذ الشافعي)) [العرف الشذي شرح سنن الترمذي، للكشميري، ج1، ص33].
وقد كان للمذهب الحنبلي والشافعي نفوذًا كبيرًا في الدراسات الحديثية والفقهية في قلب الشرق الإسلامي ـ الحجاز والعراق ومصر والشام ـ في تلك الفترة، وكان أتباع المذاهب الأخرى ينهلون من علمهم، ويعتمدون على كتبهم في علمَي المصطلح والأصول، فلا جرم أنْ تشيع دعوى “أصح الكتب بعد كتاب الله: الصحيحان البخاري ومسلم”!!
ومن هنا أكاد أجزم أنّ واضع هذه المقولة المضلِّلة هو شافعيٌّ متعصِّب لمذهبه، وجد في صحيح البخاري خير سندٍ لتعصّبه، فلم يجد بُدًّا من إطلاق تلك المقولة العجيبة عليه.
وردًّا على الشافعية، قام الحنابلة، فأدرجوا “صحيح مسلم بن الحجاج الحنبلي” في قائمة أصح الكتب بعد القرآن الكريم، نافين كون “مسند أحمد” من أصح الكتب.
وأما المالكية فكانوا قديمًا يعتقدون أن “الموطَّأ” أصح الكتب بعد القرآن الكريم! لكنْ مع انحسار نفوذِ مذهبهم، سعَوا إلى تعزيزه بتقديم صحيحَي البخاري ومسلم على الموطأ، ونشروا هذه العقيدة في إفريقية والمغرب والأندلس، إلا أنّ هذه العقيدة – كما سبق وأن نوّهنا – فاسدة ومضلِّلة.
وهكذا دخل الأحناف غمار الصراع، حيث كان فقهاؤهم الأوائل يُجلّون كتاب “الآثار” المنسوب لأبي حنيفة، إلا أن أهل الحديث منهم أعرضوا عنه، واتفقوا على تقديس صحيحَي “البخاري ومسلم”.
وعلى هذا، غلب الاعتقاد بين جمهور علماء أهل السُّنة وعامّتهم، بأنّ جميع الأحاديث الواردة في صحيح البخاري وصحيح مسلم صحيحة، لا شك فيها، وأنها بمنزلة الوحي كالقرآن الكريم، وأنها تُعادل كلام الله تعالى أو تقاربه، ويناهضون بشدة أيَّ محاولة للتشكيك في صحة أحاديث البخاري ومسلم، حتى لو كانت مناقضة لصريح القرآن، مما أدّى إلى قبولهم أحاديث مثيرة للجدل، مثل حديث سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) [صحيح البخاري، ج3، ص1192] ، وحديث خيانة حواء لآدم (عليهما السلام) [المصدر نفسه، ج3، ص1212؛ صحيح مسلم، ج2، ص1092]، وحديث محاولة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الانتحار لفترة الوحي [صحيح البخاري، ج6، ص2562]، وغيرها.
ويزعمون نسْخ أحكامٍ قرآنية بمرويّات الشيخين مع أنّها معلولة، ويخصِّصون بها عموماته، ويقيِّدون مطلقاته، ويجعلون أحاديث الشيخين حاكمةً مهيمنة على كلام الله تعالى، مما أدى إلى إفساد جُلّ أحكام الشريعة وتحريف معاني القرآن عن مواضعها، شبيهًا بما فعله الرهبان والأحبار بالتوراة والإنجيل! ونحو ذلك من الأحاديث التي يُثير بعضُها شكوكاً حول صحتها، هذا غير الروايات التي تناقض العقل والعلم الصريح، كحديث: ((لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام. ولم يخنز اللحم)) [صحيح مسلم، ج2، ص1092]، قال الألباني: ((أي لم يتغيَّر، ولم ينتَن، قال العلماء: معناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المنَّ والسلوى نهَوا عن ادخارهما، فادّخروا، ففسد، وأنتن، واستمر من ذلك الوقت)) [مختصر صحيح مسلم، للمنذري، ج1، ص219، تـ. الألباني]، أي يربط بعض العلماء فساد اللحم بتصرفات بني إسرائيل في زمن موسى (عليه السلام) دون تفكير منطقي. إلا أن العقل السليم والعلم الصريح يُثبتان عدم صحة هذا الحديث، ويقضيان بكذبه وبطلانه، فمن طبيعة اللحم أن يصبح فاسداً، ويتعفّن منذ خلْقه.
وكانت هناك محاولات من العلماء لشرح الحديث وتأويله لرفع التناقض بينه وبين الحقيقة العلمية، إلا أنّها لم تُفلح، بل زادتِ الطين بلّة.. ورغم ذلك، تم التسليم بصحتها والاعتقاد بها لمجرد ورودها في الصحيحين، مع أنها أخبار آحاد، وبعضها من الإسرائيليات، وقد أدّى هذا التشدّد في قبول أحاديث الشيخين إلى إلحادِ بعض المسلمين، وإلى طعن آخرين في مجمل السنة النبوية.
وعليه، يمكن القول: إنّ مقولة “أصح الكتب بعد كتاب الله” نشأت من تعصّبٍ مذهبيٍّ، ولم تكن مبنية على أسُسٍ علميةٍ قويةٍ، ممّا أدّى إلى مشاكلَ في فهم وتطبيق الأحاديث النبوية بنحوٍ صحيحٍ.
والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.