تفاصيل المنشور
- السائل - واحة الغرباء
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 8 مشاهدة
تفاصيل المنشور
ثمة مَن يقول: إذا كان الله تعالى قد طبَع على قلوب بعض العباد، وختم على أسماعهم وأبصارهم، وكتب عليهم الضلالة، كما قال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}، و{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، و{كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}، فلا معنى بعد ذلك للاشتغال بتقويم من لا يُقوَّم، ولا إصلاح من لا يُصلَح؛ لأن الضلالة من الله، والهداية ليستْ بأيدي الخلْق.. فكيف يُناقَش هذا المدَّعى؟!
السائل
واحة الغرباء
ثمة مَن يقول: إذا كان الله تعالى قد طبَع على قلوب بعض العباد، وختم على أسماعهم وأبصارهم، وكتب عليهم الضلالة، كما قال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}، و{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، و{كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}، فلا معنى بعد ذلك للاشتغال بتقويم من لا يُقوَّم، ولا إصلاح من لا يُصلَح؛ لأن الضلالة من الله، والهداية ليستْ بأيدي الخلْق.. فكيف يُناقَش هذا المدَّعى؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
إنّ القول بأنّ العبد لا يُصلَح، ولا يُقوَّم، ولا يُهدى؛ لأنّ الله قد أضلّه، وختم على قلبه، هو قولٌ مردودٌ، باطلُ المبدأ، فاسد المآل، مبنيّ على القول بالجبر، الذي طالما نبذه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وعدُّوه من العقائد الباطلة التي تُفضي إلى نفي العدل الالهيّ، وسلب الاختيار، وتعطيل الحساب، وتكذيب الوعد والوعيد، وكلُّها مفاسدُ تؤول إليها هذه الدعوى من حيث يشعر القائل أو لا يشعر.
وإنّ الآيات التي ساقها أصحاب هذه الشُّبهة ـ من قبيل قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}، و{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، و{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}، و{خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} ـ إنما تُحمَل على معنى الجزاء لا الابتداء، أيْ أنّ الله سبحانه إنّما يُضِلّ مَن اختار الضلال، ويطبع على مَن أعرض عن الهداية، ويَصرف القلوب عن الرشد بعد أنْ أصرّت على الغيّ، ورفضت الحجّة تلو الحجة، فكان ما ورد في هذه الآيات من الطبع والختم والإضلال عقوبةً عادلة، لا جبرًا ولا حرمانًا ابتدائيًّا.
وقد أكَّد القرآن الكريم هذا المعنى في غير موضعٍ، وبيّن أنّ العبد هو الذي يختار، وأنّ الله سبحانه جعل له السبُل واضحة، وبوّأه النجدَين، وأراه سواء السبيل، ثم ترك له حريّة الإقبال والإدبار، فقال عزّ من قائل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وقال أيضًا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فكانت الهداية هنا بمعنى الدلالة، أيْ بيّنّا له طريق الخير والشر، وأرسلنا له المرسلين، وأقمْنا له الحُجج والبراهين، فلا يُقال بعد هذا: إنّ الله تعالى أجبره على أحد الطريقين، بل هو الذي اختار، وعليه تقع التبِعة.
ويُعاضد هذا المعنى قوله سبحانه: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فإنّ المشيئة هنا مشيئةُ العبد، وقوله عزّ اسمه: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، فالرشد والغَيّ طريقان بيِّنان، والعبد مُخيّرٌ بينهما، فمَن اختار الغيّ فقد أتى من قِبَل نفسه، لا من جهة ربّه، فلا يجوز لمؤمنٍ أنْ ينسب إلى الله عزّ وجلّ الإضلال ابتداعًا ولا الطبع ابتداءً، فإنّ الله سبحانه لا يُضِلّ العباد على وجه المصادرة، ولا يطبع على القلوب من غير جُرمٍ، بل سنّته تعالى في عباده أنْ يُمهل مَن أعرض، فإذا أصرّ على العناد والزيغ، وانساق خلف هواه، خُذِل، وسُلِب التوفيق، وابتُلي بالطبع والختم على قلبه وسمْعه وبصره، جزاءً وفاقًا، لا ظلمًا ولا جَورًا، كما قال عزّ من قائل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:3]، فكان الطبع والإضلال أثرًا مترتِّبًا على الإعراض لا منشأً له، وحاشا لله تبارك وتعالى أنْ يمنع الهداية عمَّن صدق في طلبها، أو يُضِلّ عبدًا طلَب وجهَ الحقّ بإخلاص، أو يطبع على قلبٍ لم ينحرف عن الفطرة، فإنّه تعالى أعدل مِن أنْ يُعاقِب قبل تمام البياْن، وأرحم من أن يُضِلّ من شاء الهداية، وهو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فبذلك يُعلم أنّ مَن طُبِع على قلبه، أو خُتِم على سمعه، إنما نزل به ذلك عن استحقاقٍ لا كما توهَّمه صاحب الشُّبهة.
وهذا هو المعتقد الحقّ الذي أَسَّس له أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وبيّنوه لأصحابهم، وردّوا به على الجبريّة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ((إنّ الله أرحمُ بخلقه من أنْ يُجبِر خلقه على الذنوب، ثم يعذّبهم عليها، والله أعزّ مِن أنْ يريد أمرًا، فلا يكون)) [التوحيد للصدوق، ص360]، وعنه (عليه السلام) أيضًا: ((لا جبر ولا تفويض، ولكنْ أمرٌ بين أمرين)) [الكافي، ج1، ص160]، أيْ لا يُجبِر اللهُ العبد، ولا يُفوِّض إليه الأمر تمامًا بلا عناية، بل يمدُّه بالقدرة والعقل، ويهديه السبيل، ويترك له حريّة القرار، فإنْ شكَر فقد اهتدى، وإنْ كفر فقد ضلّ، وقد قال تعالى: {مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:15].
فإذا كانت الهداية والضلالة منوطةً بالاختيار، وكان العبد هو المكلّف بالسعي، لم يصحَّ بعد ذلك أنْ يُقال: “دعْك من فلانٍ، فلا يُصلَح”، أو “ذاك لا يُقوَّم”، إذ كيف علمتَ أنه لا يُصلَح؟ وكيف عرفتَ أنّ الله حرَمه الهداية؟ وهل اطّلعت على الغيب؟ أو أتاك وحيٌ من عند الله؟ أو أنك استبطنْت في عقلك أنّ الله سبحانه يخلُق مَن لا يهتدي، ويحرمه الهداية ابتداءً، وهذا هو الجبر بعينه، وفيه تكذيبٌ صارخٌ لقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}، وتكذيبٌ لقوله: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ}، ورفضٌ لصريح قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، حيث جعل الإزاغة جزاءً لا ابتداءً.
فالقول بأنّ فلانًا لا يُصلَح، هو في حقيقته نسبةُ الظلم إلى الله تعالى، وسلبٌ لاختيار العبد، وباطلٌ من أساسه، لا يصدُر إلّا مِن عقلٍ لم يتشرَّبْ بنور الفهم، ولم يهتدِ إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، الذين أصلحوا عقولَ العباد، وأزالوا عنها أوهامَ الجبر، وبيَّنوا لهم أنّهم مسؤولون عمّا كسبوا، وأنه لا يُهلِك الله سبحانه نفسًا إلّا بعد تمام الحجّة وبلوغ البيان، فمَن قال بعد ذلك بأنه لا فائدةَ في النُّصح والتعليم والهِداية، فقد ضلّ السبيلَ، وعطّل الرسالةَ، وفتَح بابَ القعود واليأس على الناس.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.
مركز الدليل العقائدي.