تفاصيل المنشور
- المستشكل - R.T.P
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 15 مشاهدة
تفاصيل المنشور
التعصب معروف قبيح مذموم، ولا يقول عاقلٌ أنه محبَّب ممدوح، وهذه الصفة هي البارزة في المتديّنين لتعصبهم لدينهم، والدين الذي يحث أتباعه ومعتنقيه على التعصب باطلٌ، إذ لولا تعصبهم الأعمى لما بقي له أثر ولا عين.
المستشكل
R.T.P
التعصب معروف قبيح مذموم، ولا يقول عاقلٌ أنه محبَّب ممدوح، وهذه الصفة هي البارزة في المتديّنين لتعصبهم لدينهم، والدين الذي يحث أتباعه ومعتنقيه على التعصب باطلٌ، إذ لولا تعصبهم الأعمى لما بقي له أثر ولا عين.
قبل مناقشة هذه المغالطة ينبغي الوقوف على بيان بارزٍ له صلة بالإجابة، وهو:
أن الكلمة في دلالتها على الحُسن والقبح تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: هناك ألفاظ تدل على معانٍ قبيحة بذاتها أو حسنةٍ بذاتها، مثل كلمة (عدل) فإنها تدل على معنى حسنٍ بذاته، وكلمة (ظلم) تدل على معنى قبيحٍ بذاته، فالعدل بما هو عدلٌ حسنٌ، والظلم بما هو ظلم قبيح، ولا تتوقف دلالة المعنى على عنوانٍ خارجيٍّ آخر.
الثاني: وهناك ألفاظٌ تدل على معنى يقتضي الحسن أو القبح، وهي لا تدل بذاتها على ذلك، فهو يتغير إذا تغير العنوان الخارجيّ؛ فيصبح ما كان مقتضيًا للحسن دالًّا على القبح، وما كان مقتضيًا للقبح دالًّا على الحسن، مثل (الصدق) و(الكذب) فالصدق يقتضي الحسن، إلا أنه يمكن أن يكون قبيحًا إذا طرأ عليه عنوانٌ خارجيٌّ مثل الصدق الذي يؤدي إلى هلاك الأبرياء، وكذلك الكذب يقتضي القبح، إلا أنه يصبح حسنًا إذا كان فيه نجاةُ المؤمنين مثلًا.
الثالث: بعض الألفاظ تدل على معنى لا يُفهم منه الحسن أو القبح، وإنما تدور دائمًا مدار العنوان الذي تشير إليه، مثل (الضرب) فالضرب لا يقال عنه أنه حسنٌ، ولا يقال عنه أنه قبيحٌ، وإنما يتوقف ذلك على العنوان، فلو كان الضرب من أجل الإيذاء فهو قبيح، وإذا كان من أجل ردع الظالم فهو حسن. وكلمة (التعصب) من هذا القبيل، فلو كان التعصب للحق فهو حسنٌ، ولو كان للباطل فهو قبيحٌ.
وينبني على ما تقدم عدمُ صحة حمل التعصب على المعنى السلبيّ أو الإيجابيّ ما لم تعرف أسبابَه، فالتعصب تارةً يكون ناتجًا عن الحب والعاطفة وبعيدًا عن الحق والإنصاف، وأخرى يكون ناتجًا عن العلم الجازم والمعرفة الحقّة والرؤية الواضحة، فكلما ازداد الإنسان يقينًا ازداد تصلُّبًا في موقفه، والاختلاف بينهما واضحٌ جدًّا، ومن هنا لا يُعدّ التعصب للدين الذي يمثل الحق أمرًا سلبيًّا، وإنما يُعدّ موقفًا صحيحًا يعكس وضوح الحق وثباته.
وقد ركز الإسلام منذ انطلاقته الأولى على تربية النفس الإنسانية وحثّها على قبول الحق والتسليم به ولو كان على النفس أو على الأهل أو المقرَّبين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، والآية تذكر مبدأ رئيسًا وقانونًا كليًّا في مجال تطبيق العدالة في كل الشؤون والموارد دون استثناء، وتأمر كل المؤمنين بإِقامة العدل في كل الأحوال والأعمال، وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءًا من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفًا ومناقضًا لطبعهم وروحهم.
ومعه لا يمكن اتهام المؤمنين بالتعصب للباطل، كيف؟ وقد أمرهم الله بالإنصاف وإنْ تضررت مصالحهم، بل هم مأمورون بالعدل والإنصاف حتى مع أعدائهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
وهذه الآية تحذّر المسلمين من الانحراف مؤكّدةً أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية يجب أنْ لا تحوْلَ دون تحقيق العدل، ويجب أنْ لا تكون سببًا للاعتداء على حقوق الآخرين؛ لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء.
ومع وجود كل هذه النصوص التي تعمل على تهذيب الإنسان وتربيته ليتعامل مع الآخرين بإنصافٍ، إلا أنه لا يجوز له التفريط في الحق والتنازل عنه تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف، قال تعالى: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32].
وهذه الآية في الواقع تطرح طريقًا منطقيًّا واضحًا لمعرفة الباطل وتركه، وهو أن يخطو الإِنسان أوّلًا في سبيل معرفة الحق بآلياتِ الوجدان والعقل، فإِذا عرف الحق فإِنّ كل ما خالفه سيكون باطلًا وضلالًا، ويجب أن يُضرب عرض الحائط، فالثبات على الحق والدفاع عنه أمرٌ حسنٌ ومطلوب في ذاته، وهو الذي يكون سببًا في استمراره وبقائه، ولا يعني هذا تعصبًا أعمى من غير بصيرة وإدراك، قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54].
وعليه فإنّ المعادلة الدينية قائمة على نبذ الباطل وعدم التعصب للهوى، وفي الوقت نفسه تدعو إلى عدم التفريط في الحق تحت أيّ حجةٍ أو ذريعةٍ.
فالتعصب القائم على المصالح والشهوات لا يكون مساهمًا في الاستمرار؛ لأن المصلحة أمرٌ ظرفيٌّ يتبدل من حالٍ إلى حالٍ بسبب تبدُّل الزمان، وعليه فهي لا تشكل ضمانة للاستمرار، بعكس الحق القائم على العلم والمعرفة، فإنه أمرٌ ثابت لا تؤثر فيه الظروفُ وتبدلُ الأزمان.