تفاصيل المنشور
- السائل - حسين
- المُجيب - مهدي الجابري الموسوي
- 23 مشاهدة
تفاصيل المنشور
ماذا نجيب عمّن يَسأل: هل القرآنُ الكريم شعرٌ أو نثرٌ؟
السائل
حسين
ماذا نجيب عمّن يَسأل: هل القرآنُ الكريم شعرٌ أو نثرٌ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
ينبغي قبل الجواب المباشر على هذا السؤال، تحريرُ جهة السؤال وتحليلُ بنيته المنطقيّة، ليتبيّن هل السؤالُ تامٌّ في حدِّه، أو مشحونٌ بمقدمة خفيّة تحتاج إلى تفكيكٍ.
إنّ سؤال: (هل القرآن شعر أو نثر؟)، في ظاهره طلبُ تصنيفٍ، ولكنه يستبطن قيدًا غير مصرَّحٍ به، وهو حصر القرآن الكريم ضمن أحد قسمَي الكلام البشريّ المعروفَين في الثقافة اللغويّة العربيّة، إمّا الشعر، وإمّا النثر، وكأنّه لا ثالثَ لهما.
وهذا الحصر ـ بنظر التحقيق ـ حصرٌ مانعٌ للثالث ظنًّا، لكنه غيرُ مانعٍ واقعًا، بل هو تقسيمٌ اصطلاحيّ أدبيّ لا يستوعب كلَّ أصناف الكلام الممكنة، فضلًا عن أنْ يستوعب الوحي الإلهيَّ المنزَل المعجِز الخارج عن حدود المألوف والمعتاد.
أولًا: إبطال مقدمة السؤال:
إنّ هذا الحصر بين الشعر والنثر ليس تقسيمًا عقليًّا استغراقيًّا (مانعًا جامعًا)، بل هو تقسيمٌ عرفيٌّ قائمٌ على اصطلاحات وضعيّة أدبيّة، متعلِّقة بالكلام البشريّ، ولم يدّع أحدٌ من أهل العلم أو اللغة أو البلاغة أنّ كلَّ كلامٍ ممكنٍ لا يخرج عن هذين القالبَين.. بل الواقع يشهد بخروج بعض أساليب التعبير عن هذا القيد؛ ولذا نصّ البلاغيّون والأصوليّون والمتكلّمون على أنّ القرآنَ الكريم نظمٌ مستقلٌّ، وجنسٌ ثالث، لا ينطبق عليه حدّ الشعر، ولا يدخل تحت حدّ النثر، بل له خصائصه المتميِّزة في التركيب والإيقاع والأسلوب والمعاني، وهذا ما أشار إليه البلغاء في وصفهم كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقولهم: ((دون كلامِ الخالق وفوقَ كلامِ المخلوقين)) [كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص530]، فكيف بكلام الخالق ذاته؟!
ثانيًا: الجواب على فرض التسليم الجدليّ:
ولو سَلَّمْنا جَدَلًا بالتقسيم المذكور، لم يلزم منه ما يرومون إثباته؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم لا يُعدُّ شعرًا حقيقةً، لا من جهة الوزن العروضيّ، ولا من جهة التقفية، ولا من جهة الوظيفة والغرض المقصود من الشعر في لسان العرب، وقد نفى القرآنُ ذلك صراحةً في محكم التنزيل، فقال جلّ شأنه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]، وهذا النفيُ وإنْ كان متعلِّقًا بخصوص شخص النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، إلّا أنّه يتضمّن بطريق اللزوم وصفَ القرآن الذي هو كلامه المتلوُّ عنه، إذ من المعلوم أنّ المتكلَّم إذا انتفى عنه الاتصاف بصفةٍ في مقامٍ تكون تلك الصفة لازمةً لمقولاته، كان لازمًا انتفاؤها عن أقواله كذلك، لا سيما مع قرينة قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:41]، إذ صرّح بالنفيِ عن عين الكلام الموحَى.
وكذلك لا يصحُّ عدّه نثرًا اصطلاحيًّا محضًا، فإنّ النثر في اصطلاح البلاغيّين كلامٌ مرسلٌ غير موزونٍ ولا مقفّى، مألوف النسق لدى العرب، والقرآن خارجٌ عن ذلك المألوف، متميّزٌ بأسلوبٍ إلهيٍّ فريدٍ لا نظير له في كلام البشر.
وقد بيّن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هذا المعنى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ((إنّ كلام الباري سبحانه لا يُشبه كلام الخلق، كما لا تشبه أفعالُه أفعالَهم)) [وسائل الشيعة، ج٢٧، ص٢٠١].
وأمّا كلمات أعلام التحقيق، فقد قال الشيخ معرفة في وصفه: ((لا هو شعرٌ كشعرهم ولا هو نثرٌ كنثرهم ، ولا فيه تكلّفُ أهل السجع والكهانة، على أنه جمعٌ بين مزايا أنواع الكلام الرفيع ، فيه أناقة الشعر وطلاقة النثر وجزالة السجع الرصين ، ممّا لم يوجد له نظيرٌ، ولم يخلفه أبدًا بديلٌ، ولا استطاع أحدٌ أنْ يماريه أو يجاريه ، لا في أسلوبه ولا في نظمه البديع)) [التمهيد في علوم القرآن، ج5، ص10].
فثبت بما تقدّم أنّ القرآن متفرِّدٌ بأسلوبٍ خاصٍّ خارجٍ عن المألوف البشريّ، لا يَنطبِق عليه تقسيم الكلام إلى شعرٍ أو نثرٍ اصطلاحيَّين، بل هو كلامٌ إلهيٌّ معجِزٌ جامعٌ لمحاسن الكلام، متعالٍ عن قيود الصناعات البشريّة.
ويَظهر مما تقدّم أنّ التقسيم المذكور باطلٌ على القرآن الكريم، سواءٌ أُريد به التقسيم الحقيقيّ أو الاصطلاحيّ؛ إذ القرآن لا ينطبق عليه أحدهما، بل هو متفرِّدٌ بأسلوبه، خارجٌ عن مألوف كلام البشر، ولا يُقاسُ كلام الخالق على كلام المخلوقين.
فإنّ النصوص دلّت على أنّه ليس بشعرٍ ولا نثرٍ اصطلاحيّ، بل هو كلامٌ إلهيٌّ معجِز، جنسٌ ثالثٌ، ونظمٌ مستقلّ، لا تحيط به حدود الصناعات البشريّة.. فلا يلزم أنْ يخضع بيانُ الله عزّ وجلَّ، لقوالب بيان البشر، ولا أنْ يُلزَم بقوانينهم الوضعيّة.
وعليه، فإنّ السؤال مبنيٌّ على تقسيمٍ غير مانع ولا جامع، ومشتمل على مصادرةٍ على المطلوب، فلا يصحُّ إلزامُ القرآن بالحصر بين الشعر والنثر.
فالقرآنُ كلامٌ متفرِّدٌ، معجِزٌ، أعلى مِن أنْ يُحاكَم بقوالب أهل الصناعة والاصطلاح.
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.