مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

الشورى في اختيار الخليفة حقيقة أم وهم؟

تفاصيل المنشور

السؤال

كتب أحدهم .. تصفحتُ في القرآن فلم أجد بهِ من آيةٍ تنصُّ على خلافةِ عليٍّ، ولكني وجدتُ آيةً تذكُر Pوأمرُهُم شُورَى بَينَهُمO فالسؤال الذي يطرح نفسه : إذا كانَ الشيعةُ يؤمنون بقيمة الشورى في الحياة اليومية، سيما الاجتماعية، فلماذا رفضُهُم هاهُنا لها في أمر السقيفة؟ أ وليس أن أبا بكرٍ جمعَ القوم للاستشارة حتى يجدوا مَن هو أهلٌ لتولي أمورِ المسلمينَ بعد النبي، والقوم قد اختاروه؟

السائل

يتحفظ على اسمه

تفاصيل المنشور

السؤال

كتب أحدهم .. تصفحتُ في القرآن فلم أجد بهِ من آيةٍ تنصُّ على خلافةِ عليٍّ، ولكني وجدتُ آيةً تذكُر Pوأمرُهُم شُورَى بَينَهُمO فالسؤال الذي يطرح نفسه : إذا كانَ الشيعةُ يؤمنون بقيمة الشورى في الحياة اليومية، سيما الاجتماعية، فلماذا رفضُهُم هاهُنا لها في أمر السقيفة؟ أ وليس أن أبا بكرٍ جمعَ القوم للاستشارة حتى يجدوا مَن هو أهلٌ لتولي أمورِ المسلمينَ بعد النبي، والقوم قد اختاروه؟

بسم الله الرحمن الرحيم 
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
ضعْ في اعتبارك قبل كل شيء أنه لم يُنقل عن النبي J ما يشير إلى أنه أوكل أمر اختيار خليفته إلى الشورى، بل الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة تثبت عدم إيكال هذا الأمر إلى أحدٍ من الأمة مطلقًا. ومن شواهد ذلك ما روتْه كتب السيرة، حيث عرض بنو عامر بن صعصعة، من كبار قبائل نجد آنذاك، على رسول الله J أن يقدِّموا له الحماية مقابل أن يكون لهم الأمر من بعده، فأجابهم: “إن الأمر لله يضعه حيث يشاء”. [سيرة ابن هشام ج2، ص289، تاريخ الأمم والملوك، للطبري، ج2، ص232]
وعليه، فإن عدم ورود شيءٍ عن النبي J في هذا الموضوع هو أمر محسوم ومتفَق عليه، ولا خلاف فيه.
واعلم أن مبدأ الشورى ظهر أول مرة في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث سنّه قبل وفاته، ولم يكن له ذكرٌ أو تطبيقٌ بين الصحابة قبل ذلك، وقد أكّد ذلك بالاتفاق أصحابُ ‏التاريخ ورواة الحديث، فقد قال القرطبي في تفسيره: Sوقد جعل عمر بن الخطاب الخلافةَ ـ وهي أعظم النوازل ـ شورىR [الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص251، ط. دار الكتب المصرية].
وأكد ذلك – أيضًا – جملةٌ من علماء أهل السنة مثل ابن كثير في تفسيره، والآجُرّي في الشريعة، وابن بطة في الإبانة، بأنه: Sلمّا حضرتْ عمرَ بن الخطاب الوفاةُ حين طُعن جعل الأمر بعده شورىR [تفسير ابن كثير، ج7، ص211، تـ. السلامة؛ الشريعة، للآجري، ج4، ص1746، تـ. الدميجي؛ الإبانة الكبرى، لابن بطة، ج8، ص44، ط. در الراية، الرياض].
إذًا، لم يُذكر مبدأ الشورى قبل خلافة عمر بن الخطاب، مما يشير إلى أن خلافة أبي بكر لم تستند إلى هذا المبدأ أبدًا، وقد أكد عمر بن الخطاب هذا في خطبته الشهيرة التي تحدث فيها عن بيعة أبي بكر، كما جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب قال: Sلا يغترّنّ أمرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ‏وتمّت، ألا إنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها ! فمن بايع رجلًا من غير مشورة من ‏المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرّةً أن يُقتلاR [صحيح البخاري، ج6، ص2505، باب: رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت].
والسؤال الذي يثار هنا هو: ما الذي دفع عمر بن الخطاب إلى اعتماد مبدأ الشورى في تعيين الخليفة من بعده، على رغم أن هذا المبدأ لم يُعتمد في تعيين الخليفة الأول ولا في تعيينه هو نفسه خليفةً ثانيًا؟
جواب هذا السؤال في رواية البخاري نفسها، عن ابن عباس، أنه قال: Sكنت أقرئ رجالًا من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إلي عبد الرحمن، فقال: لو رأيت ‌رجلًا ‌أتى ‌أمير ‌المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانًا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، فتمت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورَهم. قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهمR [صحيح البخاري، ج6، ص2503].
ولعلك تسأل: من المقصود بـ “فلان” القائل: “لو قد مات عمر لقد بايعت فلانًا”؟ ومن المقصود بـ ‏”فلان” ‏الآخر الذي يُبايَع له بعد موت عمر؟
الجواب: المقصود بـ “فلان” القائل: “لو قد مات عمر لقد بايعت فلانًا”‏ هو الزبير بن العوام، والمقصود بـ ‏”فلان” ‏الآخر الذي يُبايَع له بعد موت عمر هو علي بن أبي طالب A، وهذا ما أكّده القسطلّاني في الإرشاد، وأقر بصحته، حيث قال: Sقال في مسند البزار والجعديات بإسنادٍ ضعيف: إن المراد بالذي يبايع له طلحة بن عبيد الله، ولم يسمِّ القائل ولا الناقل. قال: ثم وجدته في الأنساب للبلاذري بإسنادٍ قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل، ولفظه: قال عمر: بلغني أن الزبير قال: ‌لو ‌قد ‌مات ‌عمر ‌لبايعنا ‌عليًّا. الحديث. وهذا أصحR [إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني، ج10، ص19].
إذًا، فإن مبدأ الشورى واعتماده في اختيار الخليفة يبدو مبدأ وهميًّا؛ حيث أن تعيين أول الخلفاء لم يتم على وفق هذا المبدأ، بل كان بما يمكن وصفه بأنه “فلتة”، كما وصفه عمر، الذي كان هو نفسه من بين الذين بدأوا بهذه العملية، وقادوا الناس إليها، ومن ثم، عُيِّن خليفةً ثانيًا، وأيضًا بمعزل عن مبدأ الشورى، فالخليفة الأول والثاني انتُخِبا بغير مبدأ الشورى، وهذا ما أكده الإمام الشافعي في “الرسالة”، حيث قال: Sفاستخلفوا أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، ثم استخلف عمرُ ‏أهلَ الشورى ليختاروا واحدًا، فاختار عبدُ الرحمن عثمانَ بن عفانR [الرسالة، للشافعي، ‏ص419-420، تـ. أحمد محمد شاكر]‏.
وقد زعم بعض علماء أهل السنة أن أبا بكر وعمر احتجّا يوم السقيفة على الأنصار بحديث رسول الله J الذي ينصّ على كون الخلافة في قريش، قال النووي في شرح صحيح مسلم: Sقال القاضي: ‏وقد احتج به أبو بكر وعمر ‏رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة، فلم ينكره أحد. قال ‏القاضي: وقد عدّها العلماء في مسائل ‏الإجماع، ولم يُنقل عن أحدٍ من السلف فيها قول ولا فعل ‏يخالف ما ذكرنا، وكذلك مَن بعدهم في جميع ‏الأعصارR [شرح النووي على مسلم، ج12، ‏ص200، دار إحياء التراث العربي، بيروت]‏.
فهذا ونحوه، يدلك بوضوح على أن أبا بكر لم يُنتخب خليفة للمسلمين على وفق مبدأ الشورى، وكذلك الأمر في خلافة عمر، وأن مبدأ الشورى إنما ظهر في خلافة عمر، وهو مَنْ سنّه، واعتمده ‏أصلًا في اختيار الخليفة؛ وذلك لمنع عليّ A من الوصول إلى الخلافة بعد موته.‏
بيد أنه خالف هذا المبدأ حينما اقترب أجله، وشارف على الهلاك، فأصبح يبحث عمن يرتضيه، فيعهد إليه بالخلافة‏ بمعزل عن مبدأ الشورى، قال الزمخشري في “الكشاف”: إن عمر بن الخطاب Sقال – حين قيل له: أ لا تستخلف؟ -: لو كان ‌أبو ‌عبيدة ‌حيًّا لاستخلفته، ولو كان معاذ حيًّا لاستخلفته. ولو كان سالم حيًّا لاستخلفتهR[تفسير الزمخشري – الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل -، ج2، ص642، ط. دار الكتاب العربي، بيروت].
هذا، بالإضافة إلى شروط الشورى التي وضعها عمر، والتي قد تثير الدهشة أو النفور عند سماعها:
منها: أنّها شورى بين ستة أشخاص، يختارهم الخليفة دون مشاركة الأمة.
ومنها: يجب أن يكون الخليفة المنتخب من بين هؤلاء الستة فقط.
ومنها: إذا اتفق أغلبية الستة على شخصٍ، واعترض الباقون، ضربت أعناق المعارضين.
ومنها: إذا اتفق اثنان على شخصٍ، واثنان على آخر، تُرجح الكفة التي فيها عبد الرحمن بن عوف، وإذا لم يقبل الباقون، تضرب أعناقهم.
ومنها: أنه يجب أن لا تزيد مدة التشاور على ثلاثة أيام، وإلا ضربت أعناق الستة جميعهم. [يُنظر: الكامل في التاريخ، ج3، ص66ـ 67‏].
وعلاوة على ذلك، تتعدد طرق انتخاب الخليفة، وتتباين بنحوٍ كبير، دون أن تستند إلى أصل محدد من الكتاب والسنة النبوية، فتارةً يُنتخب الخليفة بعقدِ رجلٍ واحدٍ ومتابعة أربعة، وتارةً بنصٍّ من الخليفة السابق، وتارةً باجتماع ستةٍ لاختيار أحدهم، وتارةً بالقهر والاستيلاء، حتى انتهى الأمر بأن أصبحت الخلافة وراثة بحتة، لا تمت للدين بصلة. (وللاستزادة راجع كتاب “خلافة الرسول ‏بين الشورى والنص، مركز الرسالة).‏
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ‏المنتجَبين.‏