مركز الدليل العقائدي

التمسكُ بأهل البيت هل يتناقض مع القولِ بأخذهمُ العلم من غيرهم؟

تفاصيل المنشور

السؤال

ما الضيرُ وما يترتبُ عقائديًّا لو قُلنا بعقيدة السلفية من أنّ أهل البيت (عليهم السلام) ‏يأخذون علمَهم من غيرهم ككبار الصحابة أو غير الصحابة؟ وهل في ذلك تناقضٌ مع حديث ‏الثقلين أو أحاديث أُخرى؟

السائل

عبد الله

تفاصيل المنشور

السؤال

ما الضيرُ وما يترتبُ عقائديًّا لو قُلنا بعقيدة السلفية من أنّ أهل البيت (عليهم السلام) ‏يأخذون علمَهم من غيرهم ككبار الصحابة أو غير الصحابة؟ وهل في ذلك تناقضٌ مع حديث ‏الثقلين أو أحاديث أُخرى؟

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، ‏وهُداة الأنام.‏
إنّ القول بأنّ أهل البيت (عليهم السلام) يأخذون علمَهم من غيرهم ـ ككبار الصحابة أو سواهم ـ يستبطن جملةً من الإشكالات التي تناقضُ الأدلة القطعية الواردة في حقِّهم، ولنوضّحِ المسألة على النحو الآتي:
أولًا: التناقضُ مع حديث الثقلين:
حين أمرَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين في حديث الثقلين بأنْ يتمسَّكوا بالكتاب وأهل ‏البيت (عليهم السلام)، فإنه جعل من أهل البيت قرينًا للقرآن الكريم، ووصَفَهما بأنهما “لن يفترقا ‏حتى يردا عليه الحوض”، وفي سياقِ هذا الحديث يقول الملّا علي القاري: ((وأقول: الأظهر هو أنَّ أهل البيت غالبًا يكونون أعرفَ بصاحب البيت وأحواله، فالمرادُ بهم أهلُ العلم منهم والمطَّلعون على سيرته الواقفون على طريقته، العارفون بحُكمه وحِكمته، وبهذا يصلُح أن يكونوا مقابلًا لكتاب الله…)) [مرقاة المفاتيح، ج10، ص531].
وهكذا يقولُ ابنُ حجرٍ في “الصواعق”: ((ثم الذين وقعَ الحثُّ عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسُنّة رسوله؛ إذ ‏همُ الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيّدُه الخبرُ السابق: «ولا تعلِّموهم؛ فإنهم أعلم منكم»)) [الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيتمي، ص151].‏
فهذا الاقترانُ يقتضي استقلالَ أهلِ البيت المطلقة في الهداية ‏والمعرفة، إذ لا يمكن أنْ يأمرَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بالتمسُّك بمَن يحتاج في علمه لمصادر أخرى أقلّ منه، فهذه المصادر ‏مرجعيّةٌ تناقض الغاية من التمسُّك بهم، فإذا كانوا ‏بحاجةٍ لأخذ العلم من غيرهم فما الحاجةُ للمسلمين بالعودة إليهم وحدهم، كما أمرَ النبيُّ (صلى ‏الله عليه وآله)؟
فهل يُعقل أنْ يُلزِمَنا رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) بالتمسُّك بمن يأخذ علمَه من بشرٍ غير معصومين، بينما جعلَهم قُرَناء للقرآن الذي لا يأتيه الباطل؟! فإن التمسّك بمن يتلقّى علومَه من غيره يتناقضُ مع مبدأ الهداية الكاملة المتحقِّقة بأهلِ البيت (عليهم السلام).


ثانيًا: الإخلالُ بالعصمة وثبوتِ الطهارة الإلهيّة لهم (عليهم السلام):
الآية المباركة من قوله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، التي أقرّ علماءُ أهل السُّنة بنزولها في أهل البيت (عليهم السلام)، حيث قال الشوكاني في الإرشاد: ((قد ورَد بالدليل الصحيح أنها نزلتْ في عليٍّ وفاطمة والحسنين)) [إرشاد الفحول، ج1، ص222].
وقال أحمد بن محمد الشامي: ((وقد أجمعتْ أمّهاتُ كتب السُّنة وجميع كتب الشيعة على أنَّ المراد بأهل البيت في آية التطهير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين؛ لأنهم الذين فَسَّر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم المرادَ بأهل البيت في الآية، وكلُّ قولٍ يخالف قولَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بعيدٍ أو قريبٍ مضروبٌ به عرض الحائط، وتفسيرُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أولى من تفسير غيره؛ إذ لا أحد أعرفُ منه بمراد ربِّه)) [جناية الأكوع، ص125]، وغيرهما كثيرٌ مِن أعلام أهل السُّنة.
فهذه الآية تُثبت لأهل البيت العصمة والطهارة التامّة، ‏ والعصمةُ التي أكرمَهم اللهُ بها تشمل العلمَ الكامل، يقولُ ابن حجر الهيتمي في الصواعق: ((ويؤيّدُه الخبرُ السابق: «ولا تعلِّموهم؛ فإنهم أعلم منكم»، ‏وتميَّزوا بذلك عن بقية العلماء؛ لأن الله ‏أذهب عنهمُ الرجسُ وطهَّرهم تطهيرًا، وشرَّفَهم بالكرامات ‏الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مرَّ ‏بعضُها)) [الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيتمي، ص151‏].‏‏
فكيف يُعقل أنْ يُنسب إليهمُ احتياجُهم لغيرهم في العلم؟!‏
إذًا، أيّ ادّعاء بأنهم يأخذون من الآخرين هو مناقضٌ لعصمتهم (عليهم السلام)؛ لأن التبعيّة العلمية تعني نقصًا في معرفتهم، وهذا مما لا يتّفق مع الآية المباركة.

ثالثًا: إبطالٌ لحكمة القيادة الإلهيّة وللمنزلة الربانيّة للأئمة:
الأئمةُ (عليهم السلام) هم القادة الربانيّون الذين اجتباهم اللهُ سبحانه لتولّي زمام الهداية على لسان رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ومِن مقتضيات هذا الاختيار أنْ يكونوا في غنًى عن أيِّ مصدر بشريٍّ؛ إذ إنّهم توارثوا العلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ ولذا فإنَّ القول باحتياجهم لعلم الصحابة أو غيرهم ‏يعارض الغاية من تنصيبِهم أئمةً هُداةً للمسلمين، ويقوِّض حكمةَ الله ‏في تعيينهم خلفاءَ ‏معصومين حاملينَ للوديعة النبوية‏؛ فلا يُعقل أنْ تكون القيادة الإلهية مستندةً لمن يحتاج إلى علم الآخرين.. إذ كيف يمكنهم هدايةُ الأمة وتوجيهُها إنْ كانوا ليس لهم علمٌ إلا بتوجيهاتٍ بشريةٍ من غيرهم!!

 

رابعاً: التناقضُ مع الأحاديث النبوية في بيان علم الإمام عليٍّ (عليه السلام):
علم عليٍّ (عليه السلام) واضحٌ مشهورٌ بين الصحابة آنذاك، فقد كانَ هو البابَ الذي مَن أتاه أُوتي العلم؛ إذ هو بابُ مدينة علم الرسول، حيث دلَّت على أعلميَّته جملةٌ من الأحاديث النبويّة، منها حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها))، وهو حديثٌ مشهور صحيح إنْ لم نقل: متواتر، فقد رواه كثيرٌ من أعلام أهل السُّنّة، وقد أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [المعجم الكبير، الطبراني، ص107]، وحكاه الذهبيّ في “تذكرة الحفاظ”، وقال: ((صحيح)) [تذكرة الحفاظ، الذهبي، ج4، ص28]، وأخرجه الحاكمُ في مناقب عليٍّ(عليه السلام)، من طريقين، أحدهما: عن ابن عباس من طريقين صحيحين، والآخر: عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد أقام على صحة طرقه أدلة قاطعة. [المستدرك على الصحيحين، ج3، ص126].
فتشبيه النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه بـ”مدينة العلم” وعليّ (عليه السلام) ‏بـ”بابها” هو تشبيه رمزي. إذ إنّ المدينة تمثِّل مجموعَ العلوم والمعارف، والبابُ هو المدخل إليها، وهذا ‏يعني أنّ عليًّا (عليه السلام) هو المفتاح لفهْم هذه العلوم والمعارف، وهو الذي يرشد الناس إليها.‏
فإذا كان عليٌّ ‏(عليه السلام) ‏هو بابَ مدينة العلم، فمن المؤكَّد أنْ يكون أعلمَ الناس بعد النبيّ (صلى الله عليه ‏وآله) بما أنَّ العلم يَدخُل إليه عن طريقه.‏
وقد ورَد في أحاديث أخرى ما يؤكِّد إرجاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمَّته إلى عليٍّ (عليه السلام)، بقوله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم) له: ((أنت تبيِّن لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي)) [المستدرك على الصحيحين، ج3، ص126 وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرِّجاه. وذكره صاحب حِلية الأولياء، ج1، ص64؛ وكنز العمال، ج11، ح32983].
وفي حديثٍ آخر، عن أنسٍ، أنه قال: ((قيل: يا رسولَ الله عمّن نأخذ العلم بعدَك؟ قال: عن عليٍّ)) [قرة العينين في تفضيل الشيخين، لقطب الدين أحمد شاه ولي الله، ص234].
وبناءً على هذه الأحاديث، يتضح جليًّا أنَّ الإمام عليًّا (عليه السلام) وارثُ علوم النبوة، وحامل رسالة الهداية إلى الأمة، ليكون بذلك منارةَ العلم التي أشار إليها النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، داعيًا الأمة إلى اتّباعه والتسُّمك بنهجه.
فكيف يمكن أنْ يُقال بأنّه يأخذُ علمَه من غيره، وهو بابُ العلم الذي تفيض منه معارفُ النبي (صلى الله عليه وآله)؟؟!
أ يُعقل أنْ يُقال: إنه يأخذُ علمَه من بشرٍ آخرين، وهو الذي جعل منه النبيُّ (صلى الله عليه وآله) مرجعًا وملاذًا للأمّة في مسائلهم واختلافاتهم بعده؟!
فأنَّى يُنسب إليه أخذُ العلم من غيره، وهو مَن أُوتيَ العلم الذي يَرجِع إليه كلُّ مَن يطلب الهدايةَ والحق؟!
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.