مركز الدليل العقائدي

مركز الدليل العقائدي

التخلّي عن سُنّة النبيّ (ص) بسبب إشارتها إلى إمامة علي (ع)

المستشكل = أكرم جابر
الاستشكال = القرآن لم يَذكر الـ 12 إمامًا من أئمة الشيعة، ولم يصرِّح بأسمائهم، فكتاب الله يستنكف من ذِكرهم مع أنه لم يستنكف من ذكر بعض المخلوقات كالحيوانات والحشرات حيث ذكر الجمل والبعوضة والكلب والحمير..ووو، وذكر سيدات نساء العالمين كمريم، لكن الـ 12 إمامًا لا وجود لهم في كتاب الله إلا في مخيّلة الشنيعة.

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله المطهَّرين مصابيح الظلام، وهُداة الأنام.
معنى يستنكف من الشيء، وعنه: يأنِفَ منه، ويمتنع عنه، ويقال: استنكف عن العمل: امتنَع مستكبرًا، ومن ذلك قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172]، أي أنّ المسيح لن يأنف، ولا يمتنع من أن يكون عبدًا لله، ولا الملائكة المقرَّبون يأنفون، ويستكبرون عن الإقرار بعبوديّته والإذعان له بذلك.
إذًا، فالاستنكاف يُعبِّر عن الرفض والامتناع مع الأنَفة؛ لذلك دعونا نتفحَّصْ سويّة، هل حقًّا أن القرآن الكريم لم يذكر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) استنكافًا؟!
وقبل البحث في هذا الجانب، لنلقِ نظرة على مجموعةٍ من الأمور الأخرى التي لم يذكرها القرآن الكريم، ونقوم بتطبيق تأويل المستشكل القائل بأن ذلك يُعدّ “استنكافًا” من جانب القرآن؛ نظرًا لعدم ذكرها والتصريح بها.
فالصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، لم يرد لها ذكرٌ في القرآن، فهل يمكن اعتبار هذا السكوت عن ذكر تلك التفاصيل في القرآن بمثابة “استنكاف” من ذكرها؟! ‏
وللزكاة مقادير وأوقات، لم يرِد لها ذكرٌ في القرآن، هل يُمكن عدُّ هذا السكوت عن ذكر تلك التفاصيل في القرآن “استنكافًا”؟!
وللصوم أحكام جمّة، إلا أنه لم يرِد لها ذكر في القرآن، هل يُمكن عدُّ هذا السكوت عن ذكر تلك التفاصيل في القرآن “استنكافًا”؟!
وكذا أحكام الحجّ والذبائح والأنكِحة وما يتعلَّق بها، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، لم يرد لها ذكر في القرآن، هل يُمكن عدّ هذا السكوت عن ذكر تلك التفاصيل في القرآن “استنكافًا”؟!
وضعْ في علمك أن الخلافة على وفق معتقداتكم تعدّ ركنًا بارزًا من أركان الإيمان، فقد صرّح ابن تيمية في كتابه “مجموع الفتاوى”، بأنّ ولاية أمر الناس أصلُ الدين وأعظمُ واجباته، بل قيام الدين والدنيا متوقِّفٌ عليها، حيث يقول: ((يجب أن يُعرف أنّ ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها)) [مجموع الفتاوى، ج28، ص390].
وصرّح ابن عبد البر في الاستيعاب بركنيّة الخلافة، فقال: ((والخلافة ركنٌ من أركان الدين)) [الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص969].
ومع ذلك، فإن القرآن الكريم لم يذكر من هو وليّ أمر الناس، ولم يُصرِّح في آيةٍ واحدة باسم أحد الخلفاء، بينما ذُكرت البغال والحمير والكلاب، وحتى أحقر المخلوقات في الأرض.
وبناءً على تأويل المستشكل فإنّ القرآن يُظهر استنكافًا من ذكر أسماء الخلفاء، على رغم ذكره لكثيرٍ من المخلوقات، حتى الأحقر منها.
وأنعم النظر في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]، فالقرآن الكريم – على قياس المستشكل – لم يستنكف من ذكر زيد بن حارثة، وهو مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حين استنكف من ذكر أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهم خلفاء الرسول – كما يزعمون – ومنصب الخلافة يُعدّ من أعظم واجبات الدين، كما يصفه ابن تيمية وغيره من علماء أهل السُّنة!!
وتجدر الإشارة إلى أمرٍ ذي خطورة بالغة، حيث بلغ الأمر ببعض أتباع المذاهب الإسلامية إلى حدّ ‏العزوف عن سُنّة رسول الله (صلى الله عليه ‏وآله وسلم)، وأصبحوا يتجاهلون تعاليمه وأوامره، ولا سيما في ما يتصل بفهم آيات الكتاب الكريم وتفسيرها، التي بيَّنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك يعود إلى أن معظم ما ورد في الأحاديث والروايات في المصادر السُّنية يُعدُّ توجيهًا قويًّا لصالح الشيعة، حيث يتعذَّر على أتباع المذاهب الأخرى الاستناد إليها للدفاع عن معتقداتهم أو الردّ على الشيعة، حيث يَظهر بوضوح أن معظم الأحاديث والروايات التي يعتمد عليها أهل السُّنة تؤكد بنحوٍ واضح وصريح على أفضلية أهل البيت (عليهم السلام)، وتُبرز حقَّهم في الإمامة، وتشير إلى عصمتهم، وأنهم (عليهم السلام) الخلفاء الشرعيون للأمة‏ الإسلامية بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
فالنبيُّ الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم)، حين قال في حديثٍ صحيح: ‏((إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله، حبلٌ ممدودٌ ‏من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يرِدا عليّ الحوض، فانظروا كيف ‏تخلفوني فيهما)) [مختصر صحيح الجامع الصغير للسيوطي والألباني، رقم الحديث 1726-‏‏2458]، وما بعده من بياناتٍ وأحاديث متضافرة تحثّ على التمسُّك والأخذ والمتابعة للثقلين (الكتاب والعترة) ‏معًا، ‏وغيرها من الأحاديث الشريفة الصحيحة الواردة في هذا الجانب، التي يكاد المنصفُ أن ‏يقول بتواترها، بل هي متواترة فعلًا، لتضافر نقلها عند جميع الفِرَق الإسلامية على اختلاف ‏مشاربهم الفقهية والعقَدية.‏
والمراد من «العترة» هم المعصومون المطهَّرون من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيرهم، كما صرّح في لسان العرب بأنّ (العترة) هم (أهل البيت) مستدلًّا بحديث: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» قال: ((فجعل العترة أهل البيت)) [لسان العرب، ج9، ص34، مادّة «عتر»].
وقال ابن الأعرابي: ((العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، فعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولد فاطمة البتول… وقيل: عترته أهل بيته الأقربون، وهم أولاده، وعلي وأولاده)) [المصدر نفسه].
ثم أنعم النظر في دلالات الحديث (حديث الثقلين)، حيث تظهر عدة جوانب ذات قيمة عالية:
1 – أن العترة هم الخلفاء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
2 – أن العترة تكون هاديةً مهديّةً إلى يوم القيامة، وهذا هو معنى عدم الافتراق عن القرآن الذي نصّ عليه علماء أهل السُّنة عند شرحهم للحديث المذكور. [ينظر: فيض القدير في شرح الجامع الصغير للمناوي، ج3، ص20؛ شرح المقاصد للتفتازاني، ج3، ص529].
3 – استمرار خلافة العترة إلى يوم القيامة، وقد نصّ على ذلك علماء أهل السُّنة أنفسهم عند شرحهم لهذا الحديث. [ينظر: فيض القدير، ج3، ص19؛ الصواعق المحرقة، ص442].
وبالرجوع إلى حديثٍ آخر، تضافر الرواة على روايته، فقد روتْه صحاح المسلمين ومسانيدهم، وهو حديث (الخلفاء من بعدي اثنا عشر)، سننتهي إلى نتيجةٍ واضحة وضوحَ الشمس في رائعة النهار، حيث يشير الحديث إلى استمرار خلافتهم إلى يوم القيامة، فقد جاء فيه: ((لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلُّهم من قريش)) [صحيح مسلم، ج6، ص4].
يقول ابن كثير في تاريخه: ((قال ابن تيمية: وهؤلاء المبشَّر بهم في حديث جابر بن سمرة، وقرّر أنهم يكونون مفرَّقين في الأمة، ولا تقوم الساعة حتى يوجَدوا)) [تاريخ ابن كثير، ج6، ص249-250]، وعن السيوطي في تاريخه: ((وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى القيامة يعملون بالحق وإنْ لم يتوالوا)) [تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص12]، وعن ابن حجر في فتح الباري: ((ولا بدّ من تمام العدة قبل قيام الساعة)) [فتح الباري، ج13، ص211].
يقول ابن كثير: ((ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا، يقيم الحق، ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أنّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره)) [تفسير ابن كثير، ج3، ص59].
فحديث “الخلفاء من بعدي اثنا عشر” فيه دلالاتٌ أربعٌ: الصلاح، والنص على خلافتهم، واستمرار هذه الخلافة إلى يوم القيامة، وأنهم من قريش، وهي نفسها دلالات حديث الثقلين المتقدّمة من دون زيادة ولا نقيصة.. وبمقتضى الجمع بين الحديثين الشريفين (حديث الثقلين، وحديث الخلفاء) ننتهي إلى نتيجة واضحة جدًّا، حاصلها: أن الخلفاء الاثني عشر الذين تستمرّ خلافتهم إلى يوم القيامة هم من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط؛ ولم يدَّعِ أحدٌ من المسلمين أنّ هذا الحديث ينطبق على اثني عشر خليفة غير أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله، وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين المنتجَبين.