مركز الدليل العقائدي

الأخلاق لا تُطهى في القدور

تفاصيل المنشور

السؤال

ذكر ابن القيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين (ج2، ص10) قوله: ((كل من ألِفَ ضربًا من ضروب الحيوانات اكتسب من طبعه وخُلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى))، وثمة من يروّج لهذا الكلام، ويعلّل به ضعف بعض الشعوب الإسلامية بسبب إكثارهم من أكل لحوم الدجاج، في مقابل شعوبٍ أخرى وصفوها بالقوّة والغيرة والشجاعة لاعتمادهم على أكل لحوم الإبل، وهكذا دواليك في مطابقة طبع الإنسان لطبيعة ما يأكله من حيوانات.

فهل يصحّ هذا الكلام؟ وهل القول باكتساب الإنسان طباع الحيوان الذي يأكل لحمه له وجهٌ صحيح في العقل أو الدين؟

السائل

د. عادل المياحي

تفاصيل المنشور

السؤال

ذكر ابن القيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين (ج2، ص10) قوله: ((كل من ألِفَ ضربًا من ضروب الحيوانات اكتسب من طبعه وخُلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى))، وثمة من يروّج لهذا الكلام، ويعلّل به ضعف بعض الشعوب الإسلامية بسبب إكثارهم من أكل لحوم الدجاج، في مقابل شعوبٍ أخرى وصفوها بالقوّة والغيرة والشجاعة لاعتمادهم على أكل لحوم الإبل، وهكذا دواليك في مطابقة طبع الإنسان لطبيعة ما يأكله من حيوانات.

فهل يصحّ هذا الكلام؟ وهل القول باكتساب الإنسان طباع الحيوان الذي يأكل لحمه له وجهٌ صحيح في العقل أو الدين؟

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمدٍ وآله المطهَّرين، مصابيحِ الظلام، وهُداةِ الأنام.

وهذا الكلام، على اختصاره، باطلٌ من وجوهٍ متعددة، إذ إنّه يقوم على فرضيةٍ تسقط بها الحقيقةُ الإنسانية، القائمةِ على العقلِ والإرادة. فإذا كان لحمُ الحيوان هو الذي يُورِثُ الإنسانَ طباعًا خلقية، فما معنى التكليفِ الشرعي إذن؟! وما دورُ الإرادةِ ومجاهدة النفس والهوى، اللذين جعلهما الإسلام من أعظم القربات؟!

ولو صحّ قول ابن القيم، لكان إصلاحُ الأخلاق ممكنًا بتوزيع أنواعٍ معينةٍ من اللحوم، فيصير الإنسانُ شجاعًا أو جبانًا بحسب ما أُطعم من لحوم! وهو مما لا يقول به عاقل، فضلًا عن أن يُقرّه الشرع. بل هو أقربُ إلى خرافاتِ الوثنيّين، ممن زعموا أن الأرواح تتلوّن بما يدخل البدن من لحمٍ أو دم.

ثم إنّ هذا الزعم لا شاهد له من الكتاب ولا من السنّة، بل لم نجد في النصوص ما يدلّ على أنّ الإنسان إذا أكل لحمَ حيوانٍ اكتسب صفته، بل إنّ تهذيب النفس في الشريعة مرتبطٌ بالنيّة، والطاعة، والتقوى، لا بنوع الحيوان المذبوح.

وأما الواقع، فهو يُكذّب هذا الكلام أشدّ التكذيب، إذ نجد مجتمعاتٍ تأكل اللحومَ ذاتها وتختلف طباعُها، بل قد يكون الرجلان من أهل بيتٍ واحدٍ، يشتركان في نوع اللحم، ويختلفان خلقًا وسلوكًا. أ فَالأخلاقُ تُكتسب من اللحم، أم أنها ثمرةُ العقلِ والإرادة؟!

بل لو صحّ ما قاله ابن القيم، لوجب أن يكون آكلُ اللحومِ المتنوعةِ مزيجًا من أخلاقِ الخرافِ والإبلِ والدجاج! فأين الضابط؟ وأين المعيار؟! وما الحدُّ الفاصل بين الخُلقِ المكتسَب من اللحم، والخُلقِ المكتسَب من العقلِ والشرع؟!

وقد يُقال: كيف تردّون هذا القول، وفي الشريعة بيانٌ لأثر أكل الحرام على النفس؟

فنقول: إنّ أثر الحرام لا يأتي من طبع الحيوان، بل من كونه معصيةً، والمعصية تُظلِم القلب، وتسلب نور الطاعة، وهذا شيء، وزعمُ أن لحمَ الحيوان يُكسب طبعه شيءٌ آخر.

وقد يحاول بعضهم تأويل كلام ابن القيم بأنه أقربُ إلى الملاحظة أو الانطباع، لا إلى التقرير العقدي، لكنّ هذا لا ينفي ضرورة الردّ عليه، لأنه يؤدي – إن أُهمل – إلى فسادٍ كبيرٍ في فهم النفس، والتربية، والعبودية لله عزّ وجل.

فليُعلَم إذاً، أن الأخلاق تُكتسب بمجاهدة النفس، لا بالموائد، وبمجاهدة الهوى، لا بأكل لحم الشاة أو الجمل. وإنّ النفس لا تُطهى في القُدور، بل تُهذّب بالعقلِ والوحي، والصبرِ والمراقبة.

والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ونبيّنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين، المعصومين المنتجبين.